هل قال أحد يوما أنّ أزمة العرب باتت أزمة خيال؟ لن يستطيعوا قول ذلك، بعد أن أُقحموا في مآزق “العقل” العربي تكوينا وبنية، وسأقول بلا أدنى تردّد بأنّ مشكلة العقل نفسه هي مشكلة خيال، فانظر تجد أنّنا في قلب معضلة الوجود العربي، لأنّ العقل الذي نحن بصدده تابع للخيال، مؤطّر به، مقيد بصوره، وكأنّ العقل الأداتي عند هابرماس أو الظلماني كما عند أبي الجمال الطاهر (ولد 1830م)، في الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية، لا يمكنه أن يكون إلاّ تنفيذا لمدارك الخيال. فهو عقل لما جُعل له في الخيال. فتأمّل تاريخ الخيال في الغرب النّاهض، فإنك سترى أنّ العقل كان في خدمته، فهو خيال متخم بالرغبة في الحياة والرفاهية والمحسنات المادية والرمزية، وهو خيال الانقطاع إلى تعاظم المتداني وتيسير ما يقوم به الاجتماع بالشروط نفسها. وستجد الخيال هناك قد حدّد مسار التاريخ وجدله، وأتخم في خيال العنف والحرب ومابه يتحقق الاعتراف وتطويع الأمم.
وخيالنا لا زال مقيدا بالاتباع، بتحقيق صورة حاضر غالب يدرك أنّه سبقه في الخيال ورسم صورة العنف المفترض عند صدام الحضارات الذي هو في جوهره صدام الخيالات. فالغرب تخيل صور الإخضاع، وجعل تخليف الجنوب جزء من خيال رأسمالي لن يتحقق إلاّ بنهاية التاريخ في ذهن أحمق، أي تحقيق الاعتراف برسم المفهوم الهيغلي للتاريخ مستعادا كوجيفيا بعد الحرب العالمية كما المستعاد فوكوياميا عند تفكك الاتحاد السوفياتي.
سنتقدم قليلا، وبعد سير بين العقول التي تحملها خطابات تترى هنا وهناك، تبين أن المعضلة أعمق من أن تكون عقلية، بل المعضلة تكمن في الخيال بنية وتكوينا. وسنجد أنّ العقل خادم للخيال في وضعنا الكوني، فالعقل المتعالي الذي أراد هيغل أن يصالح بينه وبين المتداني، ما هو إلاّ تعقيل لمعطى الخيال الذي تنتجه الثقافة، في وصل وتواصل مع كل هذا الرصيد الذي يفعل في الاجتماع فعلا ظاهرا وباطنا.
الخيال يساوي المستقبل، بالأول يُصار إلى الثاني، فانظر إلى خيالك تعرف موقعك من المعقول. لم يبالغ باتريك كاباندا حين قرر في “الثروة الإبداعية للأمم” بأن مسألة التنمية والتقدم ليست قضية مرتبطة بمعادلة إحصائية خارقة، بل معظم التقدم له علاقة بالخيال في الفكر والعمل. فالخيال في نظر الخبير الأوغاندي الأصل، هو المستقبل، بل الخيال هو مهد المستقبل. وكان ذلك قصد تعزيز دور الفنون في التنمية، وهذه الفريضة الغائبة في التنمية هي ما جعل أمارسيا صن في تقديم الكتاب المذكور يؤكد على المنظور الإنساني للتنمية القائم على مطلب إثراء حياة البشر.
فقر الخيال وأزمته خطر داهم لطالما نبّهنا إليه. فالخيال اليوم يعاني من تراجع شديد. العقل جبّار في خدمة الخيال، لكن الخيال الذي لا يخرق حدود الإمكان، ويتفوق عليه السير التلقائي للعقل تحت طائلة القصور الذاتي لتمعقلاتنا المتاحة، لن يكون محفّزا حتى للإرادة السياسية للتنمية، لأنّ سؤال الجدوى يتطلب قوة الخيال، الذي يمنحه الطاقة الإيجابية للعمل.
ومثل التنمية تبدو السياسة في المجال العربي فاقدة للخيال،وهي عاجزة عن توفير الصور غير الملولة خارج تحشيد التكرار وعقم التّخيّل. فقر الخيال في السياسة جلب على العرب هزائم لا حدود لها. وهناك حُرّاس الخيال السياسي وجموده، آلتهم في ذلك المُلاوغة والتكرار. غياب ابتكار الأساليب واكتشاف المنافذ ونمو ملكة رؤية الأشياء خارج ضغط الغباء النابع أولا وقبل كل شيء من فقر الخيال.
عند كلّ صباح تتساقط أحكام عقيمة، وتحيين لما كان كما كان، وإستشراف عقيم للمستقبل كما اشرأبت إليه عيون السّلف المهزوم، لم يتصالحوا مع أنفسهم ولم يمنحوا الخيار فرصة الإنطلاق. فالعدوّ في فنّ الحرب نفسها لن تهزمه إلاّ إذا هزمته في الخيال، وما ينوء به الخطاب السياسي العربي هو أوجاع مزمنة، وذُهان شديد، به تعبر العمليات الدفاعية اللاّشعورية عن نفسها، لتنتج خطابا سياسيا مرضيا. الذين حققوا مكتسبات في المجال العربي هم من أطلق الحرية للخيال، وخالف الانسدادات التي فرضتها الهزائم وعوامل الانحطاط، ولكنهم باتوا يخضعون لسَوْرة التفكير نفسه الذي أنتجته تلك الأزمنة.
تأمّلت نهضة الغرب فألفيتها نتاج صراع كبير، كان فيه صناع التنوير وقادته حقيقيين، لكن نهضتنا بائسة، وكفاحنا بائس، لأنه يُجامل قيم الانحطاط ويتصالح مع قيم النّصب والاحتيال. وفي هذا الأفق يبدو لي أنّ ما ينتظر المجال العربي من هذا البؤس كبير، وبأنّ العقل العربي متخفّف مستخف وخفيف تماما كالخيال العربي، وهنا مكمن الخطورة والهزيمة والانهيار.
في تجارب الفرد يكون صاحب الخيال الأوفر أكثر ذكاء من صاحب الخيال الفقير، مهما تلبّس هذا الأخير بمفاهيم التمعقلات التي دخلت الاستهلاك العمومي، تماما كما يستهلك الأغبياء منتوجات إلكترونية متطورة في حياتهم المليئة بالجهل والانحسار. فالمفاهيم العقلانية اليوم هي أشياء مستهلكة في عصر المتاجرة بالمادي والرمزي، عصر الاستهلاك المفتوح للجماهير، لكن المفاهيم اليوم ليست كافية لضمان التقدم الاستراتيجي في الوعي والمعنى، ما لم تنضبط بنسق ومصفوفة رؤيوية مدركة لجدل العقل والخيال في النظر والعمل. فالمفاهيم العلمية اليوم كما تستهلك في إطار ما سميناه بالجهل التّعلُّمي، تبدو عقيمة وتعزز انسدادات العلم ثبوتا وإثباتا.
كل خطاب لا يحرّك الخيال، هو خطاب عقيم. فانظر وتأمّل، لم كان الخيال هو صانع النهضة وملهم الأمم ومحفّز للعقل وراسما آفاقه؟! فالعقل الذي تبتغيه النهضات لا يستغني عن الخيال البتة، بل حقّ أن يقال عنه أداتي وظلماني.