
لقد اقتحم العلم وارتاد فضاءات جديدة هائلة منها الفضاء التاريخي والحضاري، فكما استطاعت الجيولوجيا وبواسطة الكربون 14 وعن طريق ( استنطاق ) حلقات الشجر التي تعمر القرون الطويلة لتعرف ماذا حدث في الكون منذ قرون عف عليها الزمن واندثرت مع اندثار الذاكرة البشرية، نفس الشيء حدث مع ( نكش ونفض ) الحفريات لحضارات لم تعد تذكر في التاريخ ( كما هو الحال في الحضارة الآشورية ذات النزعة الحربية التي أذاقت شعوب الجوار أصناف الويل والدمار ثم طواها التاريخ فهل تسمع لهم رِكْزا ؟! ).
ونعود إلى الحدث التاريخي وكيف تبدأ الأمور جدا صغيرة لايكاد يتفطن لها إلا الآحاد من الخليقة بتعبير ابن خلدون فقد بدأ حصار فيينا في الرابع عشر من تموز يوليو من عام 1683 م، وكان القيصر ليوبولد الأول النمساوي قد فر أمام الحملة العثمانية الرهيبة التي ضمت قرابة ربع مليون جندي مزودين بأفضل أسلحة ذلك العصر من المدافع والبنادق ذات الحشوة الواحدة، على ماجاء في الوثائق السلطانية من أيام السلطان محمد الرابع ، حيث نقرأ صوراً من مجريات المعركة ، في هدم أطراف من سور البلدة ، أو ضرب مجموعة من الأعداء ( مما عجل بروح 40 – 50 من هؤلاء الأوغاد إلى جهنم !! ).
فشلت الحملة واندحر الجيش العرمرم ، وأعدم الوزير الأعظم في بلغراد عاصمة الصرب الحالية في 25 ديسمبر من نفس العام 1683 م، في أعياد الميلاد المسيحية ، وكان البابا إينوسنس الحادي عشر ( INNOZENS XI ) خلف التحالف المقدس الجديد، حيث اتحدت القوة النمساوية مع قوة من ساكسونيا ، وقوة من بافاريا ( سكسونيا وبافاريا مقاطعتان في جمهورية ألمانيا الاتحادية سابقا) بالأضافة إلى الجيش البولوني الذي ذكرناه سابقاً تحت إمرة الملك البولوني يوحنا الثالث سوبيسكي.
بل وأكثر من هذا حيث ختم السلطان العثماني محمد خان الرابع فترة حكمه الأخيرة التي دامت أكثر من أربعين عاماً بهزيمة أشد هولاً في السهل المجري في معركة ( موهاكز في 12 آب ـ أغسطس عام 1687 م ) ذلك السهل الذي كان الجنود الانكشارية قد خلدوا فيه نصرهم الكبير قبل 160 عاماً.
ولكن ليست الذكريات ولا الأرض تمنح نصراً أو هزيمة ، وإنما تغيير مابالنفوس !! ( سنة الله التي قد خلت في عباده )، حيث تم عزل الخليفة بعد ذلك ليموت في عام 1687م عن عمر يبلغ 53 عاماً قهراً وغماً، وليعين من بعده أخوه السطان (سليمان خان الثاني).
صعود أوروبا الفكري
كانت هزيمة القوة العظمى العثمانية ذات نكبة مزدوجة فهي عجلت بالدولة العثمانية باتجاه التآكل والتحلل والتفسخ إلى جثة الميت آخر الأمر ليعلن أتاتورك الموت في نعوة عامة تاريخية، كما أعلنها جورباتشوف عن إمبراطورية كارل ماركس وستالين ولينين، وفي نفس العام الذي مات فيه السلطان محمد خان الرابع عام 1687م كان ( اسحق نيوتن ) يكتب فيه كتابه الرائع ( الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية ) هل هذا له أدنى دلالة في إلقاء ضوء على الأحداث التاريخية وتفسير ماحدث؟؟
لم يكن كتاب ( الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية ) سوى القفزة النوعية في تاريخ العقل الإنساني عندما يبدأ الدخول في مرحلة انعطافية جديدة في تفسير العالم الذي يحيط به، فالكتاب كان إذاً المدخل الجديد لفهم عالم جديد، وبالطبع لم يتفطن المسلمون الأتراك ـ فضلاً عن المسلمين التابعين لهم ذلك أن الأتراك العثمانيين كانوا يمثلون الطليعة والقيادة والخلافة للأمة الإسلامية آنذاك ـ لهذا التحول النوعي الذي يجري في العالم ، من هنا كان قولنا أن التفوق العربي في شبه الجزيرة الايبرية كان تفوقاً حضارياً، وكان اقتحام العثمانيين عسكرياً بالدرجة الأولى، مالذي كان يحدث آنذاك في أوربا ؟؟
كان اسحق نيوتن يضع الموشور الزجاجي أمام الضوء ليرى تحلل أطياف الألوان السبعة للضوء الأبيض، كان يقوم بتطوير علم ( التكامل والتفاضل )، توصل إلى قانون ( الجاذبية ) بين عامي 1664 و1666 م، كان يضع كتابه عن علم ( البصريات ) ويفسر الضوء على أنه جسيمات ، وفي عام 1687م التي ذكرناها كان يقوم بتطبيق قانون الجاذبية على حركة الأجرام السماوية وسقوط الأجسام على الأرض ثم ليطور علم الديناميكا ( بما في ذلك القوانين الثلاثة في الديناميكا المعروفة التي تبدأ بقانون قصور المادة وتنتهي بقانون كل فعل له رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه ) ثم ليطور بعدها قوانين ميكانيكا السوائل.