آراءثقافة

الكذب على الوجود والإزدراء بماهية الأشياء

للكائن ميول يبعثها الإحساس بما يسمى في الفلسفة البوذية” بالظّمأ الوجودي”، وهو ظمأ يلازمه ضرب من المعاناة، ليس معاناة الإخفاق في طلب مجد أناني، بل معاناة المعنى العميق للوجود الهارب من قبضة الماهيات المتردية.

وهناك أيضا ميل إلى “الظّمأ اللاّوجودي” (la soif de l’inexistence)، وهو ما يمكن أن نجعل منه منطلقا لأمر آخر، نسميه الرغبة في استئناف الوجود بشروط أفضل.

الاختلال في الميل الثاني قد ينتهي إلى الأقصى: الانتحار، لكي نبحث في شروط أنطولوجية على قاعدة هذا الظّمأ الوجودي (استعمال رائج كثيرا في الأدبيات وفلسفة الدين الغربية، مثال فقط، فريديريش رونيون: الدين)، أجل، لكي نبحث في شروط أخرى للوجود يتعين تحقيق هذا الشكل من الانتحار الدائم-اقتلوا أنفسكم- تحقيقا للولادة الثانية.

غير أنّ الولادة الثانية ينبغي أن تتحلّى بالنّقاء الكامل، حياة نقيضة لكل أشكال الانحدار، فالظّامئ الأنطولوجي، لا يمكن أن يستند إلى أحطّ الوسائل في طلب الولادة الثانية، أي الوجود الأعلى، فالمنتحر لا يطلب تكرار الوجود الارتكاسي.

وبهذا يكون المنتحر أوفى للوجود ممن يتشقلب داخل الوجود نفسه بشروطه الأدنى.

قصّة الوجود فضلا عن فلسفته هي آخر محطّة يمكن أن يبلغها الدّجل. فلا مراوغة مع الوجود وفي الوجود، المساحة الأنقى في التّأمّل، التي أضنت الفلاسفة وهامت بهم في براري العزلة لا في زواريب مدن الملح.

فالانهمام الأنطولوجي يفعل فعله في الذّات الهائمة تصوفا وعرفانا وتفلسفا، غير المعنية بلتيّا الوجود الأدنى والتّي المفهمات التي تنجم عن خبرة وجودية هي راشحة من حاجة أخرى غير المعرفة، بل هي راشحة عن حاجة في التواصل والاجتماع، هي وسائل لتقاسم الخبرات المعنوية.

لكن الانزياح بها طلبا للسلطة الرمزية هو هنا مغامرة “مبهومية”، لأنّ المفهوم حين ينحدر من وظيفته يصبح مبهما وأيضا يؤدي وظيفة الارتكاس والتبهّم في طلب مكاسب الوجود الأدنى.

يؤكد إبن عربي على أنه لا استقراء في التّجلّي، وهكذا نفهم أنّ محاولة “التمفهم” إستقرائيا في مجال الوجود هو “تمبهم” لا يبلغ بطالبه إلى مصاف السلوك العارف، فهو “مُلاوغة” بصّاصة على ما يتنزل منزلة البيان في الخبرة الوجودية للأغيار، وليس منزلة العرفان، فكل خبير صاحب تجربة وجودية ينتج حولها بيانا لنقل ما رشح من الوجود.

من لم يجرب رهق الصعود وسلوة الوصول، فهو أقرب إلى توصيف حالة وتمثّل صورتها دون انخراط في خبرة خاصة بناء على: لا استقراء في التجلّي.

من لا يخرج من حسابات الوجود الأدنى، ومن ركب حمار الوصولية، ومن لم تفته وليمة أشعبية، أنّى له الوصول؟! فالتّعطّش الوجودي لا يترك فائض انهمام لقنص طرائد الجهل، والتحرّش بالقُصّر في أزقة التشبيك بأساليب الذئاب المنفردة، تحت طائلة الظّمأ لما هو أدنى والازدراء بما هو أعلى.

العصر يتيج في منقلبه الأنطلوجي إمكانية استغلال مفاهيم الفيلسوف في لعبة الفيلدوكس ومآربه، الحالة السامرية اللاّمساسية تفسّر كل ظواهر الهروب، إنّ طلب التجدد في الوجود والولادة الثانية تقتضي تحقيق قطيعة مع الوجود الأدنى.

نزدري بالفهم الديني المُحرج ونشرب نخب فهم ملتبس منه وثير، من مشارب مدن الملح.

الكذب الوجودي هو أنكر أشكال الكذب، لأنه كذب على بديهي المعنى، حيث لا أبده من الوجود الأصيل، إذ يمكن أن نرمق من بعيد دجل الماهيات المنحدرة، لحظة التفافها على الوجود. حتى الأنطولوجيا باتت حقلا للدّواهي الأيديولوجية.

https://anbaaexpress.ma/46lwx

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى