لم تكن فاجعة اختراق قاعدة بيانات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عبارة عن حادث سيبراني عابر، بل زلزالاً رقمياً كشف هشاشة النظام الأمني الرقمي في مؤسسات عمومية يفترض أنها الحارس الأمين لأكثر البيانات حساسية للمغاربة.
فما الذي وقع؟ ولماذا يجب أن يعيد هذا الحدث تشكيل وعينا الرقمي كأفراد ومجتمع ودولة؟
إن تسريب معلومات دقيقة حول الأجراء، والشركات، والأجور، والحسابات البنكية والتصريحات الشهرية بالإضافة إلى كونها خرق للخصوصية، بل تقويض مباشر لثقة المواطن والمؤسسة في الدولة.
كيف يُنتظر من مقاول أو أجير أن يستمر في التصريح أو الانخراط في منظومة رقمية، وهو يرى أن حمايته ليست ضمن الأولويات؟
ومن ناحية البعد الاقتصادي، فكل رقم تم تسريبه هو ثروة. حين تصل معطيات عن مداخيل بعض الأجراء إلى أزيد من 100 مليون شهرياً، فالأمر يتعدى الفضيحة؛ إنها خريطة اقتصادية تُهدى على طبق من ذهب لمنافسين خارجيين، لمهندسي الابتزاز، ولمهربي رؤوس الأموال.
• من يعرف كتلة أجور شركة يعرف حجم نشاطها.
• من يعرف العناوين البنكية يعرف منافذ الاختراق.
• من يعرف البريد الإلكتروني يعرف كيف يصيد بذكاء.
ومن ناحية الأمن الرقمي، فرغم الحديث المتكرر عن الرقمنة والإدارة الذكية والتحول الرقمي، إلا أن البنية الأمنية المصاحبة ظلت تعاني من الهشاشة، والتوظيف الشكلاني. ما وقع اليوم يفرض مراجعة شاملة لكل الاستراتيجيات الرقمية، لأنه ببساطة: لا تحول رقمي دون أمن رقمي.
ومن الناحية القانونية، إذا ثبت الإهمال، فقد تتعرض الدولة لمساءلات قضائية محلية ودولية، سواء من شركات متضررة أو منظمات حقوقية دولية معنية بحماية المعطيات الشخصية. فما بالك إن استُعملت المعطيات في حملات قرصنة عابرة للحدود أو عمليات إرهابية رقمية.
أما من ناحية البعد السيادي، فنحن في حرب رقمية باردة. إذ في ظل التوتر الإقليمي وخاصة مع الجارة الجزائر، لا يمكن استبعاد فرضية أن تكون القرصنة جزءاً من استراتيجيات استخباراتية لتجفيف منابع الاستقرار داخل المغرب. فالمعطيات ليست فقط بيانات، بل أسلحة ناعمة تُستعمل لتفكيك المجتمعات من الداخل دون رصاصة واحدة.
أما من ناحية التأثير المجتمعي والديني، فلا يمكن تجاهل الأثر النفسي والمعنوي لهذا الاختراق على فئات عريضة من المجتمع. حيث ستبدأ ثقافة الريبة في العودة، والثقة في المعاملات الرقمية ستهتز. وهنا، من المهم التذكير بأن الإسلام شدد على حرمة التجسس:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ.. وَلَا تَجَسَّسُوا” [سورة الحجرات: الآية 12]
فالتجسس الرقمي، سواء من أفراد أو دول، يدخل في باب الحرام الصريح، خاصة حين يُستغل للإضرار بالناس في أرزاقهم وأمانهم.
فماذا بعد هذه القرصنة؟ وما الدروس المستفادة؟
• ضرورة إنشاء وكالة سيادية متخصصة في الأمن السيبراني مرتبطة مباشرة برئاسة الحكومة.
• مراجعة كل البروتوكولات الرقمية الحالية، والتوقف عن “الرقمنة العشوائية”.
• تعزيز شراكات الدولة مع شركات الأمن السيبراني العالمية ذات السمعة والخبرة.
• إشراك المجتمع المدني في توعية المواطنين بحقوقهم الرقمية.
ختاما فما وقع ليس نهاية العالم الرقمي، لكنه جرس إنذار يجب ألا يمر مرور الكرام. فإما أن نعيد ترتيب أولوياتنا ونستثمر في الأمن الرقمي بنفس الحماس الذي نروج به للرقمنة، أو نُسلم مفاتيحنا، طوعاً أو كرهاً، لمن يتقن فنون “الاختراق”.