آراءثقافة

سورة يوسف.. تأملات ونتائج (3-6)

الإعداد للمقاومة والإصلاح

السجن مدرسة من مدارس الحياة؛ من دخله ضعيفاً خرج منه قوياً ذلك للتجارب المختلفة المشارب والمتباينة الأفكار والمتقلبة الأذواق والطبائع من الناس؛ ويمكن قراءة سجن يوسف النبي إسقاطاً على واقع اليوم المعاصر على النحو التالي:

1 / الظرف القاسي المعاش قبل دخول السجن بتطبيق القانون خطأ وإلصاق التهم جزافاً تحديداً للبريء أهون منه داخل السجن؛ ووصفها حالة نفسية سيئة كانت مصاحبة للسجين فكان الحكم عليه بدخول السجن رغم قساوته ووحشيته أهون عليه بمثابة التخلص من عامل نفسي سيئ معلق غير محسوم “ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين” لاستقرار العامل النفسي ذاته على جادة الأمر سلباً في ظاهر الأمر؛ وهنا تقوية البنية الداخلية للنفس في ظروف صعبة للغاية وهي الإنتقال من حياة طبيعية إلى حياة ذات وضع مغاير جداً لا تألفه النفس السليمة.

الآيات هنا تعني إجراءات التحري والتقاضي لأعلى درجات التقاضي ووزن البينة وترجيحها ما أشبه ومن ثم الحكم النهائي للمتهم.

2 / هذا الإعداد الجديد لتربية النفس على الشدائد كان بمثابة معرفة حقيقية ومباشرة ومعاشة لمن هم مثله في درجات الخصومة والضعف من عامَّة الشعب المغلوبين على أمرهم؛ لذلك الإعداد لأي مقاومة أو ثورة شعبية تنتج إنَّما تنتج عن ممارسة ومعرفة عميقة لتغيير القانون والنظام الحاكم في أي مكان؛ وهذا ما حدث ليوسف مع المسجونين؛ وهو ما حدث مثلاً، لاحقاً عندنا في السودان في ثورة ديسمبر 2018 واقتلاع النظام الحاكم في أبريل 2019؛ ذات الملامح والشبه؛ وقس عليها لبقية الدول ذات النمط المنموط.

3 / داخل السجن مع السجناء؛ تعرف يوسف على الجميع وتعرف الجميع عليه بياناً بالعمل؛ وتمت تربيتهم بأخلاق النبوة وتعليمهم بثوابت القيم الإنسانية الرفيعة والمعتقدات السليمة فكانوا نواة لإحداث التغيير المرتقب وآية ذلك؛ هي تجربتهم له في تأويل وتحقيق الرؤى التي يشاهدونها فحملهم على الثقة فيه وحملوه على الثقة بهم وهم فيما بعد تقلدوا مفاصل الدولة بما تعلموه منه وقادوها والشعب على الحق والخير والفضيلة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وما أشبه؛ فنجحت الدولة بالصدق والأمانة والعزيمة والتخطيط الاستراتيجي السليم؛ وفي المقابل غيَّروا القانون الجائر إلى القانون العادل؛ وغيروا الحكم الظالم إلى الحكم الصالح وهكذا.

4 / داخل السجن أيضاً؛ تم التعرف على المعتقد الجديد فكانت دعوة أصولية للتوحيد من آمون الذي يعني تعدد الآلهة إلى الإله الواحد آتون؛ ومن ثَمَّ حاربوا القيم الفاسدة في رجال الدين واستغلالهم عبر مؤسساتهم الدينية – كهنة المعابد وفقهاء السلطان – للشعب ولسياسة الملك والنظام الحاكم؛ وإذا أسقطت هذا المفهوم على العصر الحالي وإلى أن يشاء الله ستجده عند مجامع الفقه الإسلامي والكنيسة المسيحية والكنيست اليهودي وكأنَّهم أوصياء من الله على الناس تسلطاً وتجبراً وانقياداً.

والأدهى من ذلك هو قيادة الحاكم فعلياً من وراء حجاب الدين بمنح صكوك الغفران والكفران؛ وهذه نقطة جوهرية مستمرة حتى الآن ولنا أن نراجع تجاربنا السياسية في المنطقة العربية وجميع العالم لتجد تحقيقها بلا شك.

5 / أمر آخر هو تنفيذ العدالة على المجرمين بموجب إثبات الآيات – التحري وإثبات التهم بعد التحقيقات في القضية المعنية – ففي ذلك الحين / بغض النظر عن مفهوما نحن اليوم / كانت هناك عدالة وقانون جنائي أو مدني على المجرمين والقتلة وما أشبه بحكم التعدي ومخالفة القانون فكان التنفيذ ويمكن إسقاطها اليوم على حاضرنا في المعارضة المسلحة أو السياسية من إبادة جماعية مقصودة وتصفية الخصوم جسدياً وما إلى ذلك؛ فكان تطبيق القانون على الجميع حقاً وعدلاً (صاحبي السجن / يوسف)؛ وبغض النظر عن فهمنا لحيثيات مبادئ القانون والعدالة الاجتماعية والتقاضي سلباً أو إيجاباً؛ فإنَّ ما تم يدخل ضمن منظومة العدالة وتحقيقاً لها؛ كما وجب التنبيه لضرورة تطوير القانون وآلياته ووسائله برفع الوعي في العقول وليس الخيال.

حِنكة إدارة الدولة ودِقَّة التصرف

فيما سبق؛ أشرت إلى مرتكزين مهمين متعلقين بشخصية يوسف النبي؛ هما الصبر الجميل المؤدب بأدب الشريعة وأدب الحقيقة؛ والحكمة الحكيمة في حسن التصرف ونيل المراد وتحقيقه على أكمل وجه؛ وهذا ما حدث في تنسم يوسف للسلطة من طريق شيوع صدقه وتحقيق تأويل الرؤى بين السواد الأعظم من الناس؛ ويمكن تلخيص ذلك في الآتي:

1 / رؤيا الملك؛ هي رؤيا منامية لكنها تحمل في طياتها الكثير من المفاهيم لأسس قيام الدولة الحديثة وكانت بمثابة الضوء الأخضر لتولي يوسف مقاليد الحكم؛ وهي ذات الفهم السابق في الإعداد الجيد للقواعد الشعبية التي ستحكم الدولة فيما بعد / فترة السجن لأصحابه / ومن هذه المفاهيم الرمزية المحضة لرؤيا البقر والسنابل التي لم يستطع كهنة المعبد / رجال الدين عبر السنين / فك رموزها فأحاَلوها للقامة الروحية التي ترتبط ارتباطاً مباشراً مع مفهوم الوحدانية وزمام الكون والوجود في يد الله لا غير.

إذاً؛ هي ذات حدَّين؛ الحد الأول: قيام الدولة بأصولية سلامة المعتقد لا عبر رجال الدين بل عبر المقامات والقامات الروحية للنبي يوسف؛ ويمثلها اليوم الدستور الإنساني لحقوق الإنسان القائم على المعرفة بالله تعالى في العدالة والمساواة وما أشبه من طريق تجديد الفهم عن الله في القرآن – راجع كتابنا تحت الإعداد ” الفكرة الإنسانية العالمية ” لمزيد من التفاصيل – والإذن في الكلام.

الحد الثاني: إعادة النظر في تقييم وتقويم مؤسسات الدولة من كل المناحي الحياتية لبلوغ رفاهية الشعب واحترام وإعلاء قيمة الإنسان ومنع الفساد بكل وجوهه ورفع مستوى الاقتصاد الوطني والتعليم والصحة والبنى التحتية والخدمات اللوجستية وما إلى ذلك.

إذاً ليس استنباطاً من معرفة أحداث بقية السورة لكن باستنباط المفاهيم المواكبة لأسس قيام الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة وإسقاطها على الحالة اليوم ولإعلاء قيمة الحياة على قيمة الموت والقتل والقتال والصراع والنزاع بين جهة وأخرى أو بين فرد وآخر.

(يتبع)

https://anbaaexpress.ma/2gdyu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى