لم يكن بريئا أن تسرّب أوساط البيت الأبيض جانبا متوترا من محادثات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة في واشنطن.
ورغم أن مادة ذلك التوتر مرتبطة بتمسك الأمير بموقف المملكة وشروطها لإقامة علاقات مع إسرائيل، فإن الأمر ليس جديدا أو كشفا فاجأ الرئيس الأميركي.
والظاهر أن الكشف عن الأمر يفضح ضيقا داخل الإدارة أو في علاقة البيت الأبيض مع لوبيات الكونغرس لاسيما تلك المنخرطة في سياق دفاع بنيوي عن إسرائيل.
يلفت مرجع سياسي لبناني إلى أن الواقعة التي كشف عنها موقع «أكسيوس» الأميركي واعتبرها «سبقا» الثلاثاء، هي نسخة طبق الأصل من واقعة جرت في الرياض كشف عنها الكاتب الأميركي بوب وودورد في كتابه “War” الصادر في تشرين الأول 2024.
يروي الكاتب في الفصل المتعلق بزيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن في عهد الرئيس السابق جو بايدن للعاصمة السعودية بعد اندلاع حرب 7 تشرين الأول 2023 في غزة، أن الوزير الأميركي أثار مسألة التطبيع مع الأمير محمد، فتلقى جواب الرفض والشروط الملزمة لأي علاقة مع إسرائيل، موبّخا ضيفه على موقف واشنطن في إدارة الأزمة والحرب.
لم يكن الموقف السعودي أسير مناقشات تجري داخل الجدران. أمعنت المملكة في جعل موقفها شفافا علنيا أكثر وضوحا جرى تسويقه لتحويله موقفا دوليا شاملا.
وحين اشترطت إدارة بايدن ربط أي اتفاقات في مجال الأمن والدفاع والقطاع النووي باتفاقات تطبيع مع إسرائيل، تمسكت الرياض بشروطها بإقامة دولة فلسطينية قبل الشروع بأي علاقات مع إسرائيل.
وذهب موقف الرياض إلى حدود حزم تشبه تماما طباع ولي العهد، حين أوقفت التفاوض بشأن تلك الاتفاقات حتى حين أسقطت إدارة بايدن شرط التطبيع وتخلت عنه.
لا يمكن تخيل أن ترامب كان يعتقد أن موقف الرياض في عهد بايدن قد يتغير في عهده. امتلك رجل أميركا القوي من الحنكة والحصافة والمعطيات ما يجعله يستنتج أن الموقف السعودي متماسك شديد الارتباط بالرؤية التي تراها السعودية وملكها وأميرها مصلحة للمنطقة وقاعدة لاستقرارها الحقيقي.
وحين زار الرئيس الأميركي الرياض في أيار الماضي سمع من ولي العهد مطالعة تفسر مقاربة المملكة للأزمة وتعرض للمفاتيح العملية لإنهاء الصراع: “لا نجاعة لعلاقات مع إسرائيل من دون أن ينتهي الاحتلال وتقوم للفلسطينيين دولتهم”.
خلال عامي حرب غزة قادت المملكة جهودا دبلوماسية مكثفة أثمرت في 27 أيلول 2024 عن الإعلان في اجتماع وزاري بشأن القضية الفلسطينية وجهود السلام، عقد على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، إطلاق «التحالف العالمي من أجل تنفيذ حل الدولتين».
ولاحقا تدحرجت تلك الجهود فتدافعـت دول معترضة ومتحفظة نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية. قادت الرياض وباريس مؤتمرا مشتركا للدفاع عن قيام دولة فلسطينية على هامش قمة الأمم المتحدة الأخيرة في نيويورك.
راقب ترامب هذا التطور، تململ واعتبره غير مفيد، لكنه أخذ علما بأن الرياض تقود عالما يتغير دفعه لإسقاط «ريفييرا» غزة والقفز بحذر نحو الحل السعودي في مشروع القرار الذي أقره مجلس الأمن لخطّة غزّة: “مسار لقيام دولة فلسطينية”.
تروي بعض المصادر أن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر التقى الرئيس الأميركي في اسكتلندا أثناء زيارة قام بها ترامب لمسقط رأس والدته في تموز الماضي وفاتحه بأن لندن تفكر بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وحين سأله ترامب عن الدوافع أخبره بأن الرئيس الفرنسي حثّه في زيارة الدولة التي قام بها قبل أسابيع إلى لندن على الاتساق مع مزاج عام في العالم العربي يقوده الأمير محمد بن سلمان. سكت ترامب، فأعلن ستارمر عن ذلك بعد ساعات بما فهم في لندن أن «السكوت علامة الرضا».
يبدو سبق «أكسيوس» المستند إلى تسريبات نقلت عن «مسؤولين أميركيين» يهدف من داخل البيت الأبيض إلى إعطاء طابع المحادثات الصعبة مع الضيف السعودي.
تقول المعلومات إن دوائر ترامب ترد على ما يشبه حملة تشنها دوائر داخل الدولة وبعضها قريب من إسرائيل بشأن موافقة البيت الأبيض على كسر التفوق الجوي الإسرائيلي بالموافقة على بيع الرياض مقاتلات F-35 الأكثر تقدما في الصناعة العسكرية الأميركية والأكثر كفاءة على مستوى العالم.
غير أن ما أرادته التسريبات دليلا على جدية جهود الرئيس الأميركي في ممارسة الضغوط لدفع السعودية للانضمام إلى اتفاقات التطبيع مع إسرائيل، أرادته أن يكون عرضا جديدا لما تغير في السعودية ولا يتغير بين إدارة ديمقراطية وإدارة جمهورية حتى لو كان يقودها ترامب بالذات الذي يفتخر بصداقته الشخصية مع الأمير السعودي.
قالت التسريبات أيضا إن السعودية رقم صعب لا يمكن تجاوزه وأن مسألة التطبيع ساقطة، وأن ترامب نفسه بات مقتنعا بأن الاستقرار في المنطقة لا يمكن أن يتحقق إلا وفق الحل السعودي الذي تأكدت عناوينه من جديد في ما وصف بالاجتماع المتوتر بين الزعيمين داخل بيت ترامب نفسه.
لم يبد ترامب في الظهور العلني مع ولي العهد السعودي أي علامة توحي بغبار تبرم من موقف ضيفه. حين سئل عما إذا كان أثار مسألة علاقة السعودية مع إسرائيل، رد ترامب بحبور: نعم، تاركا للأمير محمد الرد والتفسير.
بدا أن الرئيس الأميركي مغتبط بموقف ضيفه على نحو لا يمكن أن يشي أن توترا شاب محادثاتهما داخل الغرف المغلقة على منوال ما تشي به تسريبات «أكسيوس» ومراميها.




