آراء
أخر الأخبار

دين بلا عقل.. كيف صنعت الجهادية العابرة للحدود أخطر انحراف في تاريخ الإسلام المعاصر

... المفارقة الكبرى أن هذا التيار، وهو يرفع شعار «العودة إلى السلف»، قطع مع جوهر التجربة الإسلامية التاريخية التي قامت على التنوع والاجتهاد والتفاعل مع الواقع...

لم يكن التطرف الديني في العالم الإسلامي ظاهرة طارئة أو وليدة لحظة واحدة، لكنه منذ ثمانينيات القرن الماضي دخل طورًا جديدًا أكثر عنفًا وشمولًا مع صعود ما سُمّي بـ«الجهادية العابرة للحدود».

هنا لم نعد أمام تيارات احتجاجية أو قراءات متشددة للنص فحسب، بل أمام مشروع أيديولوجي كامل يعلن الحرب على الدولة والمجتمع والتاريخ والعقل معًا، ويعيد تعريف الدين بوصفه أداة قتل لا منظومة قيم.

في هذا التحول الجذري، جرى تفكيك الإسلام من داخله وإعادة تركيبه على مقاس العنف. لم يعد النص فضاءً للتأويل أو الهداية، بل سلاحًا يُشهر في وجه البشر.

ولم يعد الخلاف الفقهي اختلافًا مشروعًا، بل صار دليل إدانة يستوجب التكفير ثم الإبادة. هكذا تحوّل التكفير من رأي شاذ إلى «عقيدة قتل»، ومن فتوى هامشية إلى برنامج عمل يومي.

الجهادية العابرة للحدود لم تكتفِ بتكفير الحكام، كما فعلت حركات سابقة، بل وسّعت دائرة العداء لتشمل العلماء، والمؤسسات الدينية، والمجتمعات بأكملها. في خطابها، لا يوجد مسلم آمن إلا من انضوى تحت رايتها، ولا يوجد عالم معتبر إلا من كرّس فقهه لخدمة مشروعها. كل ما عدا ذلك «ردة»، وكل اختلاف «خيانة»، وكل حياد «نفاق» .

هذا المنطق لم ينشأ في فراغ. لقد تغذّى على تراكمات تاريخية من الهزائم السياسية، والاستبداد، والفشل التنموي، لكنه استثمر هذه الأزمات بطريقة انتقائية، اختزلت الواقع المعقّد في سردية تبسيطية واحدة: العالم منقسم بين خيمة الإيمان وخيمة الكفر.

لا مكان للتاريخ، ولا اعتبار للاجتهاد، ولا قيمة للإنسان. هناك فقط معركة كونية مفتوحة، والدم فيها هو اللغة الوحيدة المفهومة.

الأخطر في هذا التيار أنه صادر حق التأويل، وادّعى امتلاك الحقيقة المطلقة. النص، الذي ظل عبر القرون مجالًا للعقل والرحمة والاختلاف، جرى اقتلاعه من سياقه وتحويله إلى شظايا جاهزة للتفجير. آيات نزلت في ظروف تاريخية محددة قُطعت عن سياقها، وأحاديث خضعت لقراءات انتقائية، وكل ذلك جرى تقديمه بوصفه «الإسلام الخالص».

هكذا تم اغتيال العقل باسم النقل، وتم خنق المقاصد باسم الظواهر، وتحولت الشريعة من منظومة لتحقيق العدل إلى ترسانة لتبرير العنف.

ومع العبور إلى الفضاء العالمي، لم تعد الجهادية مرتبطة بأرض أو قضية وطنية. صارت عابرة للحدود، عابرة للثقافات، وعابرة حتى للأخلاق. التفجير في سوق، أو مسجد، أو مدرسة، أو طائرة، لم يعد جريمة، بل «غزوة». قتل المدنيين لم يعد محرّمًا، بل «ضرورة شرعية».

والانتحار، الذي حرّمته كل الأديان، صار «استشهادًا». في هذه اللحظة، انفصل الخطاب الجهادي نهائيًا عن أي مضمون ديني قابل للدفاع عنه.

لقد أنتج هذا المسار دينًا بلا رحمة، ونصًا بلا عقل، وفقهًا بلا إنسان. دينًا لا يرى في المرأة إلا عورة، ولا في الطفل إلا مشروع مقاتل، ولا في المختلف إلا هدفًا. وهو دين لا يمكن أن يبني دولة، ولا أن يصنع حضارة، ولا أن ينتج معرفة. كل ما ينتجه هو الخراب، داخل المجتمعات الإسلامية أولًا، ثم خارجها.

والمفارقة الكبرى أن هذا التيار، وهو يرفع شعار «العودة إلى السلف»، قطع مع جوهر التجربة الإسلامية التاريخية التي قامت على التنوع والاجتهاد والتفاعل مع الواقع.

فالإسلام الذي أسس مدنًا وعلومًا وفنونًا، لا يمكن اختزاله في خطاب موت. والإيمان الذي حرّك العقل والفلسفة والفقه، لا يمكن أن يتحول إلى قنبلة بشرية.

إن مواجهة الجهادية العابرة للحدود لا تكون فقط أمنيًا، بل فكريًا وأخلاقيًا قبل كل شيء. تتطلب استعادة العقل إلى قلب النص، وإعادة الاعتبار لمقاصد الدين، وتفكيك سرديات التكفير من جذورها.

فالمعركة الحقيقية ليست بين الشرق والغرب، ولا بين الإسلام والعالم، بل بين إسلام العقل وإسلام السكين.

لقد بلغ التطرف ذروته حين تحوّل الدين إلى أداة نفي للإنسان. والخروج من هذا النفق يبدأ بالاعتراف الصريح: ما يحدث ليس دفاعًا عن الإسلام، بل تشويه له، وليس جهادًا، بل حرب على المعنى نفسه.

https://anbaaexpress.ma/3mmr7

محمد بوفتاس

كاتب صحفي وسيناريست مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى