ليست الجراثيم شرًّا أخلاقيًا، فهي كائنات تؤدي دورها الطبيعي في دورة الحياة، ولا تنتشر إلا حيث يوجد العفن والتقرّح والخلل، تلتصق بالموضع المصاب، ولو كان ضيقًا بحجم سنتيمتر واحد، وتترك الجسد السليم وشأنه، فهي، في منطق الطبيعة، لا تعرف الحقد ولا التخطيط ولا التشفي، فهي تتحرك بدافع البقاء فقط، غير أنّ المأساة الحقيقية تبدأ حين نغادر عالم الطبيعة إلى عالم الإنسان، حيث يظهر نوع آخر من “الجراثيم”؛ لا يتحرك لا بدافع الغريزة وإنما بدافع القصد والاختيار، بشرٌ لا يعيشون إلا على جراح غيرهم، يتغذّون على عثرات الناس، وينفذون من المشاكل العارضة إلى الأعراض، ومن الزلات العابرة إلى الاغتيال المعنوي المتعمَّد، هؤلاء لا يبحثون عن الحقيقة ولا يدرسون سياق الأحداث، فهم ينقبون عن ثغرة فينتزعون واقعة مبتورة، ثم يحمّلونها ما لا تحتمل، ويبنون منها صورة كاملة لإنسانٍ آخر، ويقدّمونها للناس باعتبارها تعريفًا نهائيًا له، هنا لا يكون الخلل في الفعل الأصلي، بقدر ما يكون في نية التأويل وخبث القصد، وبقدر ما يكون في شهية التشويه..
ولا يُعدّ هذا السلوك اختلافًا في الرأي، ولا نقدًا اجتماعيًا مشروعًا، وإنما هو انحراف أخلاقي في استعمال العقل واللغة، كما أنه انتقال خطير من مساءلة الأفعال إلى محاكمة الذوات، ومن تقويم السلوك إلى اغتيال الكرامة، وعند هذه النقطة، يفقد الإنسان صفته الإنسانية إلى صفته الجرثومية لأنه جعل من زلات غيره وسيلة لتضخيم ذاته الواهية.
فهؤلاء يشكّلون خطرًا حقيقيا صامتًا على النسيج الاجتماعي؛ إذ يشيعون ثقافة الريبة، ويقوّضون الثقة، ويحوّلون المجتمع من فضاء للتكافل إلى ساحة افتراس رمزي، حيث إنهم لا يعالجون الأعطاب العارضة داخل المجتمع وإنما يستثمرون فيها، ولا يسعون إلى الإصلاح بقدر ما يسعون إلى الهيمنة الأخلاقية الزائفة، والفارق الجوهري بين الجرثومة البيولوجية والانسان الجرثومة (جرثومة الاجتماع)..
أن الأولى خُلقت كذلك ولا تملك خيارًا آخر، بينما الثانية اتخذت قرارها بوعيٍ كامل: أن تسكن العفن، وأن تتغذى على القبح، وأن تعادي كل ما هو سليم، لأن السلامة تفضح هشاشتها، وهكذا، لا يعود السؤال: لماذا أخطأ الإنسان؟ بل يصبح: لماذا اختار آخرون أن يجعلوا من خطئه موطنًا دائمًا لهم؟ وإن المجتمعات لا تنهار بكثرة الأخطاء والزلات والعثرات، وإنما بكثرة من يتربصون بها، وحين يتحول الجرح إلى مسرح للتشهير، والتقويم إلى تصفية، والنصيحة إلى شماتة..
فحين يغيب الضمير، يصبح الخطأ عملة، وتغدو الكرامة سلعة، ويُستباح الإنسان باسم الفضيلة الزائفة، وليس كل من تكلّم ناقدًا، ولا كل من أشار مصلحًا؛ فالنقد الذي لا تحكمه النية السليمة يتحول إلى أذى، والكلمة التي لا يحرسها العدل تصير سلاحًا فتاكًا بأيادٍ ظالمة، ومن جعل من تتبّع عثرات وزلات الناس مهنة.
فقد أعلن — دون أن يدري — إفلاسه الأخلاقي، لأن السويّ لا يسكن إلا مواضع السلامة، أما من ألف العفن فلا يطيق الطيب، وفي ميزان القيم، يبقى الإنسان بأفعاله لا بزلاته، وبمقاصده لا بأخطائه العابرة، أما أولئك الذين اختاروا أن يكونوا جراثيم في جسد المجتمع، فمصيرهم العزلة المعنوية؛ إذ لا يذكرهم التاريخ إلا بوصفهم أعراضًا جانبية لمرحلة مرضية، لا صُنّاعًا للحياة، ولا حُماةً للفضيلة.




