عبدالمجيد بن شاوية
حدثني أحد الأصدقاء من جيلي، متأملا، قال لي: تمعن معي جيداً؛ إذا كان أغلبية من هم على رأس المصالح العمومية وكذا القطاع الخاص، هم ممن جايلونا، سنهم يتراوح بين الأربعين والخمسين وما فوق، إلا أن الفساد مستشريا في كل دواليب المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، معناه أن من قطع أشواطا مثلنا في الدراسة والحياة عموما، وما عايشناه من قلة اليد، وربما من عاش الفقر المدقع والحاجة..
وبعدها ولج سوق العمل في قطاع من القطاعات بشكل أو آخر، هم القيمون على شؤون التسيير والتدبير، ومنهم من هم في مراكز القرار، ويشكلون فئة عريضة في هرم المؤسسات السياسية والإدارية والقضائية، والنقابية والحزبية والمدنية.. حيث السؤال الذي يطرح علي بشكل مأساوي هو: كيف لهذا الفساد تربع على عرش كل المؤسسات بدون استثناء؟
أليس من كان معنا قد سبق له أن كانت أقواله عما يجري في الوطن، محتجا على الواقع الذي لا يحتمل في هذا الباب أو ذاك، وشاجبا لكل الإنحرافات والسلوكيات اللاحضارية واللاوطنية من قبيل الرشوة والزبونية والمحسوبية والعلاقات الضيقة الخاصة بخلفية قبائلية وحزبية ونقابية وزاوياتية، ولائية لهذه الجهة أو تلك، محليا، إقليميا، جهويا أو وطنيا؟
جيل المقولات الجوهرية ورؤية ما يجب أن يكون
سبق أن عرف المغرب طفرة نوعية في وعي الشباب، ضاهت الطفرات النوعية في كل بقاع العالم، خاصة في مرحلة عرفت بامتداد الأيديولوجيات الكبرى، مما جعله في مصاف الشعوب التي عرفت حراكات سياسية وثقافية وأيديولوجية، لم تكن الساحة المغربية قد جربتها فيما سبق من مراحل تاريخية، بدأ ذلك مع انتشار الوعي الوطني في معترك الحركة الاستقلالية بالمغرب وصراعاتها مع القوتين الاستعماريتين، الفرنسية والإسبانية، وكذا التجاذبات على مستوى الساحة العربية الإسلامية والصراعات والصدامات بين الشعوب العربية الإسلامية والكيان الصهيوني، ناهينا عن ما شاهدته الساحة العالمية بين القوى المتصارعة أيديولوجيا، وقد تمخض عن هذا الوعي رؤية تصورية للحال الممكن لمغرب غد ينعم مواطنوه بالكرامة والعدالة ونظام اجتماعي بمفهومه الشامل يكرس مكانة حضارية بين الشعوب المتقدمة، وموقع قدم في هرم السلم الحضاري العالمي، مما جعل مرحلة الستينيات والسبعينات إلى حدود التسعينات تعج بالحيوية والحركية السياسية والثقافية والسياسية في أوساط وعي الشباب المغربي، وإن خف وهجها مع انهيار جدار برلين..
ففي غضون هذه العقود، تشبع وعي الشباب المغربي بعدة مقولات واقتناعات وتصورات وتمثلات قائمة الذات، في كثير من جوانب الحياة السياسية والثقافية والأيديولوجية والاقتصادية والاجتماعية.. إلى حد الثورية في بعضها، نظرا لما كان للأفكار الفلسفية والفكرية والثقافية والأيديولوجية من آثار على بنيات الوعي الاجتماعي والسياسي، ولما كان لوقع التطورات والأحداث من خلخلة لبنيات ما على أكثر من مستوى، إقليميا ودوليا.
يحضرنا هنا على سبيل الذكر ما عرفته الساحة الفكرية والفلسفية من تيارات فلسفية على اختلاف مشاربها ومبادئها ومناهجها، المعروفة على الساحة العالمية، وقد شكلت منابع للوعي والرؤية في أوساط الشباب المغربي كما العربي عموما، كما يمكننا استحضار اجتهادات ودراسات لثلة من المثقفين والمفكرين ممن تعاطوا البحث والدراسة والنقد والحفر في الواقع المغربي، فكان من الممكن أن يتم التأثير على مخيال الوعي الشبابي وفئة متطلعة إلى التغيير والتقدم والتطور.. خاصة، وأن من منهم قد ولج كبريات الجامعات الغربية بأوروبا وأمريكا.
ولم تكن الساحة الفنية والجمالية بمعزل عن التطورات التي عرفتها الساحة المغربية، فقد عرفت مسارات إبداعية لم تعهدها من قبل، فظهور المجموعات الغنائية، خاصة الغيوانية، على سبيل الذكر، شكل طفرة نوعية من حيث الشكل والمضمون، فقد عبرت بصرخاتها وأصواتها ضد واقع الحال المغربي، مما جعل منها فنيا صوت الوعي المغربي، وكل العرب والمسلمين والمقهورين في كل بقاع العالم، وتعبيرا عن التداخل فيما بين مكونات المجموعة الإنسانية عامة، ولا يمكننا القفز، أيضا، على تجارب فنية مسرحية وتشكيلية وغيرها من الفنون الجميلة، فكان من تصور عكس الصورة الواقعية السائدة على مستوى الواقع المغربي، نشدان حلم وتطلع عبر الفن أملا في التغيير الممكن مستقبلا.
وهكذا كانت إيمانات فئة عريضة من شباب المغرب في تلك المراحل التاريخية والاجتماعية، قد نهلت العديد من المقولات الجوهرية والتصورات المحايثة للرقي الحضاري والتاريخي عموما، من عدة تجارب ومدارس ومذاهب ما يمكنها من التعبير عن ذاتها فكريا وفلسفيا وثقافيا وفنيا وأيديولوجيا، لبلوغ الأهداف والمقاصد السامية من وراء تغيير الواقع والتطلع إلى المأمول مما كان متمثلا، حيث أقرت بفاعلية الالتزام وروح المسؤولية والانضباط، وقيم الصدق والعمل الجاد والهادف، والتفاني في خدمة الوطن وبناء المجتمع على قيم التحضر والتقدمية.
إلا أن السؤال العريض الذي يطرح هو: ما الذي جعل مسارات كل التمثلات والحراكات على كافة مستوياتها لم تأخذ حقها في التجسيد الفعلي لكل ما كان مؤتمن عليه من خلال واقع الحال فيما بعد؟
البنية وإجهاض فعاليات التغيير والأحلام الشبابية
يقول أفلاطون في مستهل الكتاب الخامس من مؤلفه القوانين: “إنه ما من أحد يكرم نفسه تكريما صحيحا، وإن كان يحلم بأنه يفعل ذلك.
إنني أعتبر أن الشرف أو تكريم النفس شيء إلهي طيب ولا يمكن أن يلصق به أحد شيئا فشيئا، ومن يظن أنه يسمو بنفسه عن طريق الكلام والهدايا أو الخضوع والابتسام، بينما هو لا يجعل طوال ذلك الوقت شيئا أفضل مما كانت، يستطيع أن يحلم بأنه يكرمها، ولكنه لا يفعل في الحق لها شيئا، فمثلا، وبصراحة، أيمكن أن يتحول الرجل إلى مجرد غلام، قبل أن يعد نفسه قادرا على الكلام في أي شيء، وأن يكرم نفسه،- كما يتصور- بذلك الملق، ويجيز لها أن تعمل أي شيء ترغب فيه؟ فإن ما نقرره حاليا هو أنه بذلك المسلك يلحق بها الضرر، ويحول بينها وبين الشرف والتكريم، ذلك بالرغم من أننا أمرناه بوضعها من حيث المقام بعد الله”.
فمن خلال قولة أفلاطون هذه يتضح أن تكريم الذات وتشريفها يفرض واجبات أخلاقية على المواطن بداخل تصوراته للبناء الاجتماعي والأخلاقي والقيمي، وأن كل أشكال التزلف والتملق والأقوال غير الصادقة.. لا تفي بالتكريم المعهود للنفس والذات الإنسانية، ففي هذا الجانب يضع أفلاطون الأساس الأخلاقي في تكريس البنيات المتينة للاجتماع الإنساني، الضامنة لسير الحياة بشكل صحيح، وكأساس أيضا لقيام مجتمع بعيدا عن اللاأخلاقيات التي من شأنها أن تقوض المجتمع وكل مؤسساته وتهدم علاقات الكيان الإنساني والمؤسساتي في ما بين عناصره.
فالبنيات المجتمعية لها قدر كبير في تشكيل الأفراد / المواطنين وبناء العلاقات فيما بين كيانات المجتمع والدولة، على اعتبار القيم السائدة بداخلها، ومدى تصورات الأفراد والجماعات لها، فالبيئة السليمة من العيوب والقيم السالبة للكرامة والحرية والعدالة بكافة أشكالها، وبعيدة عن المخاطر والأضرار التي تسببها سلوكيات ما في تقويض أركان المجتمع.. تكون حائزة على قدر كبير من القوة والمتانة في تشكيل الأفراد / المواطنين والجماعات والمؤسسات نحو التقدم المأمول والمنتظر.
وبالعودة إلى بنياتنا المجتمعية المغربية وعلاقاتها الجدلية بما يحيا عليه الأفراد والجماعات، فإن كل ما هو معطى في غالبيته من حيث القيم السائدة والسلوكيات الممارسة، وكذا التصورات المستبطنة بداخل الكيانات المجتمعية، نجد أن العلاقات العضوية قد تنال النصيب الأكبر من خلال التمثل الحاصل في ذهنياتها، مما يجعلها تعيش على مفهوم “روح القبيلة” بمعناه التقليدي، وهو ما يؤثر سلبا على بناء المؤسسات على اختلافها، سواء رسميا أو مدنيا، رغم ما جد في الحياة المعاصرة من خلال احتكاك المجتمع المغربي بما هو معطى عالميا، ورغم ما حدث من تطورات قد شكلت وجها تحديثيا للأفراد والمجتمع معا، وما أسفرت عنه حداثة العصر، إلا أن روح القيم العضوية ما زالت تقطن الأفراد والجماعات والمؤسسات، وهو ما يؤسس لقطيعة تامة بين ما كان يعتقد من معتقدات وأفكار وتجاذبات تقدمية تطورية لدى من كان ينشدها في مرحلة من مراحل عمره، وبين ما يعاش على مستوى الواقع الراهن، مع العلم أن المغرب قد أسس جامعات ومعاهد ومدارس على اختلاف مستوياتها، وأنتج كوادر وفعاليات وطاقات بشرية هائلة من حيث التكوين والتأهيل، وبأرصدة علمية وفكرية وثقافية تضاهي ما ينتج في بقاع أخرى من العالم، إذن، فالسؤال المطروح بإلحاح هو، أين الخلل في ما نعيشه من تردي الوضع الأخلاقي ذي البعد المصلحي والنفعي الضيق، وفساد البنيات الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية والمؤسسات على اختلاف مجالاتها؟
فالأفراد والجماعات والمؤسسات نتاج البنيات السائدة، وهي بالتالي الكفيلة بإنتاج ما يمكن إنتاجه من تصورات قائمة في كل ما يستتبعها، ما من أحد منها إلا والعمل بما تفرضه من فروض الطاعة والولاء والقيم المحصلة بداخلها، وبذلك يستعصي التغيير الممكن رغم دعوات الممانعة فكريا وثقافيا وسياسيا وفلسفيا وفنيا، وكأنها صيحات في واد، حتى أن كلا منها يعتبر خروجا ومروقا وكفرا بقيم البيئة والبنية معا، وخروجا عن المألوف وردة عن السائد المشكل لروح الجماعة.
خاتمة:
لم تسلم كل المجتمعات من ردات فعل ضد الممكن والمأمول عبر تاريخ البشرية، فقلما كانت مؤسسات وبنيات المجتمعات تستقبل الوافد بصدر رحب، إلا بعد رجات فكرية وفلسفية وثقافية وسياسية وأيديولوجية، حيث مقاومة الوافد تكون في حالة حرب قيمية ومؤسساتية مستعرة، وتجند لها كل أنواع الأسلحة، خاصة منها، الأيديولوجية والثقافية والسياسية الناعم منها والصلب أيضا في حالات ما، وخلق أدوات تكييف الأصوات المطالبة بالتغيير بحسب الوضعيات الخاصة بمن ينادي به، سواء كانت أفرادا أو جماعات، مما يجعل البنية المجتمعية تعيد إنتاج نفسها في قوالب شكلية، محافظة على روحها المتعصية على التغيير.
* كاتب مغربي




