مثلت سيطرة الدعم السريع على مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور تغيرا دراماتيكيا في الحرب بين قوات الدعم بقيادة الجنرال حمدان حميدتي والجيش السوداني المستمرة منذ أبريل من العام 2023، وقلبت الخرائط على الأرض وأعادت الدعم السريع للواجهة بشكل جديدة يعتمد على الواقع الميداني حيث أصبح حميدتي يسيطر على مناطق استراتيجية في غرب البلاد، وهي مناطق مهمة وغنية بالموارد ولديها منافذ حدودية مع 5 دول هي تشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان ومصر وبالطبع ليبيا التي لعبت الإمدادات العسكرية واللوجستية القادمة منها دورا محوريا في السيطرة على مدينة الفاشر، بما في ذلك المرتزقة الأجانب من كولومبيا والسلاح المتطور والمسيرات الصينية الصغيرة والكبيرة، بمختلف أنواعها والصواريخ الموجهة وأجهزة تشويش وأنظمة ابأمن السيبراني، “فقد حميدتي 70% من مقاتليه النظاميين خلال السنوات الماضية وأصبح يعتمد بشكل شبه كلي على المرتزقة الأجانب. أما الجيش فيقاتل بنحو 20 % فقط من جنوده ويعتمد بنسبة 80% على القوات المساندة “،
لماذا يركز حميدتي على وقف إطلاق النار بعد السيطرة على الفاشر
يعتقد حميدتي أنه حقق مكسبا كبيرا واستراتيجيا بعد السيطرة على الفاشر، ويريد وقف إطلاق النار لعدة عوامل أبرزها التقاط أنفاسه وتنظيم قواته المشكلة من خليط غير متجانس من المرتزقة الأجانب من عدة دول أفريقية حيث لا يستطيع حميدتي مواصلة القتال دون إعادة ترتيب هذه الجماعات التي تشكل جلّ قواته بعد السيطرة على الفاشر لأن هذه الجماعات في الواقع تبخر العديد منها بعد الحصول على سيارات وغنائم عند سقوط الفاشر ونهبت المواطنين وممتلكاتهم ثم عاد العديد منها إلى بلدانها لأنها ليست مرتبطة بعقود عمل أو مرتبات بل هي بنادق مؤجرة أعطاها حميدتي حرية الحصول على الغنائم وتعتمد عليها لتمويل نفسها ولا تتردد في سفك الدماء من أجل الحصول على أي غنمية مهما كانت بسيطة وليست مرتبطة بحميدتي إلا في التنسيق للهجوم لذلك لا يستطيع مواصلة القتال بعد الفاشر إلا بعد وقت طويل والآن يركز هو ورعاته على أن تتوقف الحرب ويعيد ترتيب وضعه بناء على المعطيات الجديدة في حين يمثل هذا وضع غير مريح للجيش الذي يقاتل بنفس طويل وحرب استنزاف.
الخسائر البشرية في قوات الدعم السريع مقارنة بالجيش
الدعم السريع ليس لديه قوات احتياطية وانما يستجلب مقاتلين مرتزقة من دول الجوار كما قلنا وحتى هناك عناصر من جنوب السودان ماتو بكثرة والتعويض صعب إذ فقد 70% من مقاتليه النظاميين خلال السنوات الماضية وأصبح يعتمد بشكل شبه كلي على المرتزقة الأجانب. أما الجيش فيقاتل بنحو 20 % فقط من جنوده ويعتمد بنسبة 80% على القوات المساندة وذلك ليس ضعفا منه ولكن إذا طال أمد الحرب لسنين فلا يحتاج للتجنيد لأن جميع الفرق والوحدات والاسلحة الفنية لم تستنزف بعد وحتى لو امتنع المتحالفون معه عن القتال في أي وقت فإنه يقاتل وحده بقوته التي لم تستهلك بعد وهي 80% لذلك لا يخافون من إطالة أمد الحرب بل يعتمدون أسلوب إطالة أمد الحرب لعوامل أخرى تتعلق بالبقاء في الحكم بالنسبة للبرهان وأيضا انهاك حلفاء حميدتي الذين لا يمكن أن يستثمروا فيه إلى الأبد لكن التطورات الأخيرة غيرت هذه الخطط وجعلت حميدتي في وضع جديد مختلف تماما يمكنه من فرض أمر واقع وخلق حكومة وهيئات موازية سيطضر الجميع التعامل معها بحكم الأمر الواقع ويبقي الوضع شبيه بدولتين مع صراعات مستمرة ستكون في صالح حميدتي خصوصا انضمام محتمل لعدة حركات في مناطق سيطرة الدعم السريع بما في ذلك حركة عبدالواحد محمد احمد النور وحتى حركات محسوبة الآن ضمن العدل والمساواة بقيادة حاكم درافور اركو مناوي.
“تمتلك الإمارات العربية المتحدة شبكة علاقات متعددة الأشكال ومؤثرة للغاية في ليبيا وتشاد واثيوبيا وكل منطقة الساحل الإفريقي وحتى القرن الإفريقي أكثر من أي دولة أخرى”.
الوضع الجديد في الإقليم
عمليا أصبح السودان منقسم إداريا وأصبح حميدتي يدير أجزاء واسعة من البلد الذي مزفته الحروب الأهلية القبلية وسوء إدارة الموارد على مدى عقود وسواء توقفت الحرب أو استمرت سيكون على العالم أن يتعامل مع إدارتين مختلفين في السودان في وضع شبيه بالوضع الليبي حكومة في الشرق وأخرى في الغرب مع نزاع على الشرعية. خصوصا أن وضع السودان أيضا قابل للاستمرار بسبب تشابه ديناميكاياته المحلية بليبيا ووجود داعمين إقلميين يخدمهم هذا الوضع الذي يرتبط بتحالفات متناقضة في الجوار السوداني من ليبيا إلى تشاد واثيوبيا و مصر وكينبا جنوب السودان.
أما إقليميا فتقف كما هو معلوم الإمارات وتركيا والسعودية والجزائر ومصر على طرفي نقيض تماما رغم التحالفات البينية. حيث تمتلك الإمارات العربية المتحدة شبكة علاقات متعددة الأشكال ومؤثرة للغاية في ليبيا وتشاد واثيوبيا وكل منطقة الساحل الإفريقي وحتى القرن الإفريقي أكثر من أي دولة أخرى وهو ما جعلها تتمسك بامكانية مريحة لقلب المعادلات في كل هذه المنطقة ودون الكثير من الضجيج وبسبب هذه البنية القوية للإمارات في المنطقة تعتبر هزيمة قوات الدعم السريع عسكريا أمر شبيه بالخيال دون توقف دعم أبوظبي لها وهذا يعلمه الجميع وعلى رأسهم البرهان.
وستبقى المنطقة الممتدة من شرق ليبيا وتشاد وجنوب السودان كينيا واثيوبيا وبالطبع الإمارات محور واحد قوي في المنطقة يشكل تحالفا براغماتيا أيضا مع روسيا والصين وهذه المعادلة سيكون على الدول الأخرى أن تتعامل معها كأمر واقع.
لكن مع ذلك هناك فاتورة وتكلفة دبلوماسية ومنعوية وأخلاقية باهظة للإمارات مقابل الاستثمار في عشيرة حميدتي التي تدير الدعم السريع وهو بنية مليشاوية غير منضبط ولديها سجل بشع للغاية وقديم وطويل جدا في إرتكاب الفظائع والتصفيات الميدانية والابادة العرقية وهو ما افقدها أي حاضنة حقيقية في كل المناطق التي تسيطر عليها وهذا عامل حاسم بالنسبة للجيش وأيضا بالنسبة للتعامل الدولي معها.
المأساة الإنسانية وموجات النزوح والهجرة
يشكل الوضع الإنساني في السودان واحدة من اسوا المآسي الإنسانية في التاريخ السودان والمنطقة حيث تتختلط الابادة الجماعية بالجوع والعجز عن فعل أي شيء في ظل غياب استجابة إنسانية كافية من المنظمات الدولية ونزح ما يقارب 400 الف إنسان من الفاشر والقرى المحيطة بها إلى منطقة طويلة بشمال دارفور وهي تخضع لسيطرة حركة عبدالواحد محمد احمد النور.
ومنطقة جبل وانا تقع في شمال غرب الفاشر على بعد بضع و 50 كيلو من الفاشر. ومنطقة الدبة تقع في الولاية الشمالية على بعد 40 كيلو من دنقلا كمحطات مؤقتة في حين تعد تشاد وليبيا وحتى شبه وحيدة عبر المثلث الوجهة المحتملة ثم أيضا إلى السواحل نحو أوروبا كما يحلم الكثير ممن يتمكن من الخروج.
“لن تنتهي حرب السودان دون دفع الأثمان من كل الدول التي تريد استقراره ووحدته وهذه الأثمان ستدفع في كل الأحوال إما بشكل مؤقت من أجل الحفاظ على كيان هذا البلد من التمزق أو ستٌدفع على المدى الطويل إذا ترك السودان وحده”.
الحلول المحتملة بناء على الواقع على الأرض والجهات الفاعلة التي قد تؤثر على الطرفين
تعد المملكة العربية السعودية الطرف الأكثر قدرة على الوساطة رغم موقفها البين من تصرفات الدعم السريع والإبادة الجماعية التي أشرفت عليه قواته. لعدة أسباب أبرزها قدرتها على التأثير على رعات حميدتي مباشرة والتلويح بدعم الجيش السوداني والضغط على واشنطن لتصنيف الدعم السريع كمنظمة إرهابية.
أما السبب الثاني فهو رغبة الدعم السريع نفسه في وقف الحرب والحفاظ على المكاسب الجديدة وإعادة تطوير نفسه للتعامل مع العالم وإمكانية أن يعيد حمديتي تسويق نفسه بشكل مختلف أمام دول مهمة مثل مصر وتركيا.
لكن السعودية على يقين أيضا أن إبقاء حميدتي على الوضع الحالي لن يخلق أي استقرار حقيقي للسودان وهو مجرد شرعنة دولية مجانية لمليشيا عشيرة حميدتي لذلك تبحث الرياض التي دخلت بثقلها في ملف السودان عن حل حقيقي يعيد الاستقرار ويحافظ على وحدة هذا البلد المحوري وهذا لن يكون بتثبيت الوضع الراهن أبدا لذلك كل الاحتمالات واردة بما في ذلك الخيارات العسكرية للتعامل مع حميدتي وإيقاف الدعم الإقليمي عليه وهو خيار اعتقد سيحظى بدعم مصري وتركي ميداني ودعم دبلوماسي من دول أخرى عديدة لكن هذا الخيار مكلف أيضا على كل المستويات.
الخلاصة أن الحرب في السودان لن تنتهي بشكل سهل دون دفع عمل جدي من كل الدول التي تريد استقراره ووحدته وهذه الأثمان ستدفع في كل الأحوال إما بشكل مؤقت من أجل الحفاظ على كيان هذا البلد من التمزق أو ستٌدفع على المدى الطويل إذا ترك وحده يواجه مشاريع التقسيم والصراعات العدمية.




