عندما نتحدث عن الوطن، فإننا لا نتحدث عن خريطة ولا عن خطاب عاطفي مُعلَّب، بل عن كيان سياسي/مؤسساتي يُفترض فيه أن يضمن المشاركة، والمساءلة، وتكافؤ الفرص بين المواطنين.
غير أن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم بإلحاح: هل ما نعيشه في المغرب هو فعلًا وطن ديمقراطي متكامل السلط، أم دولة قوية تُدار بكفاءة من الأعلى، مقابل مؤسسات تمثيلية تُستنزف في الأسفل؟
منذ سقوط جدار برلين، فُرضت الديمقراطية كنموذج كوني جاهز للتصدير، لكن السنوات الأخيرة كشفت هشاشته حتى في معاقله التاريخية. فالديمقراطية لم تعد وعدًا بالضرورة، بل أصبحت – في كثير من التجارب – عنوانًا للأزمة، أو واجهة تُخفي اختلالات عميقة في توزيع السلطة والقرار.
في هذا السياق العالمي المرتبك، اختار المغرب منذ 1976 مسارًا خاصًا، قوامه التدرج وتفادي القطيعة. مسار طويل، شاق، ومكلف اجتماعيًا وسياسيًا، مرّ بمحطات مظلمة في الثمانينيات والتسعينيات، قبل أن يبلغ ذروته الدستورية مع دستور 2011. لكن السؤال الجوهري الذي لا يحب الكثيرون طرحه اليوم هو: ماذا ربحنا ديمقراطيًا بعد 14 سنة من هذا الدستور؟
نحن أمام مفارقة صارخة: دولة قوية في القمة، وبرلمان ضعيف في القاعدة.
لا يمكن إنكار أن المؤسسة الملكية، بقيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله، راكمت سلطة معرفية وتدبيرية عالية. القصر اليوم ليس فقط مركز قرار سياسي، بل خلية خبرة استراتيجية، تشتغل بمنطق الكفاءة، والاستشراف، والنجاعة. هذا واقع يشهد به الداخل قبل الخارج، ويمنح المغرب استقرارًا نادرًا في محيط إقليمي مضطرب.
لكن، وهنا بيت القصيد، هل يُفترض أن تُعوِّض قوة القمة ضعف باقي السلط؟
الدولة، بمعناها التنفيذي والاستراتيجي، أصبحت المحرك الرئيسي للتغيير، بينما تحوّلت المؤسسات المنتخبة – وفي مقدمتها البرلمان- إلى فضاءات باردة، محدودة التأثير، ضعيفة الجرأة، ومحبطة للرأي العام. إنها منظومة انتخابية تُكافئ العدد لا الكفاءة، وأحزاب تُطارد المقاعد بدل أن تُنتج النخب، ونخب برلمانية عاجزة عن لعب أدوار التشريع والرقابة والتأطير السياسي.
النتيجة؟
برلمان بلا وزن سياسي حقيقي، نقاش عمومي بلا ثقة، وشباب يرى في السياسة لعبة مغلقة لا تستحق الانخراط.
هنا يجب أن نكون صريحين: أزمة الديمقراطية في المغرب ليست أزمة ملكية، بل أزمة وساطة سياسية. أزمة أحزاب، وأزمة نخبة، وأزمة ثقافة سياسية تقبل بالحد الأدنى وتخاف من رفع السقف.
فالسلطة البرلمانية، كما هي اليوم، لم تستطع أن تكون شريكًا فعليًا في إنتاج القرار، ولا قوة اقتراح، ولا صوتًا مجتمعيًا ضاغطًا. بل تحوّلت، في نظر فئات واسعة، إلى مجرد ملحق شكلي في معادلة الحكم، وهو وضع خطير على المدى المتوسط، لأنه يُفرغ الديمقراطية من مضمونها دون أن يُسقطها شكليًا.
ومع اقتراب استحقاقات 2026، يصبح السؤال أكثر إلحاحًا وربما أكثر إزعاجًا: هل نريد انتخابات جديدة بنفس القواعد، ونفس الوجوه، ونفس الخطاب؟ أم نمتلك الجرأة للاعتراف بأن الديمقراطية لا تُقاس بعدد الصناديق، بل بقوة المؤسسات التي تفرزها؟
في هذا السياق، تطرح بإلحاح أطروحة فشل الديمقراطية عالميًا، كما عبّرت عنها الأستاذة عزة كرم في مقالها الأخير المعنون “القصة الكاملة لفشل مشروع الديمقراطية في العالم” (مديرة برنامج كاهان للأمم المتحدة). فهل المغرب استثناء حقيقي؟ أم مجرد حالة مؤجلة داخل نفس المنحنى العالمي؟
الجواب ليس قدريًا، بل سياسي بامتياز. إما أن نُعيد الاعتبار للبرلمان كسلطة حقيقية، ونُصلح المنظومة الحزبية بعمق، ونربط التمثيل بالكفاءة لا بالعدد، وإما أن نستمر في إدارة التوازن بالحلول الفوقية، مع ما يحمله ذلك من مخاطر التآكل الصامت للثقة.
الديمقراطية لا تموت بالانقلابات فقط، بل تموت أيضًا عندما تصبح بلا معنى.




