آراء
أخر الأخبار

أثر الغياب..

تذكروا أنكم ترتكبون جريمة في حق أبنائكم وفي حق البشرية جمعاء لأنكم تنجبون أبناء أبرياء وتصنعون منهم كومة من الأمراض والعقد النفسية..

إيمان جعي 

لا أستطيع فهم بعض الناس الذين يتزوجون وينجبون الأطفال لكي في الأخير يجعلون منهم كومة من الأمراض النفسية وسط حلقة لا متناهية من الفراغ والعدم.

ما ذنب هؤلاء الأطفال؟ يجب أن يكون بعلمكم يا من تنعتون أنفسكم بأمهات وأباء المستقبل، إن غياب دور الأم والأب ليس مجرد حدث عابر في حياة الإنسان بل هو جرح عميق لا يشفى أبدا ولو مرت السنين.

وكما تقول الجملة الشهيرة (المجروح من عائلته لا يشفى أبدا). تجبرنا الأيام على الصبر لكن عندما نكبر نصبح على شكل جسد بدون روح، نكبر ونحمل في داخلنا شتاء طويلة لا تنتهي.

(المخير فينا كان كيشوف.. شنو كان كيشوف؟ سكت ماتصدعنيش.. ولكن أنا بغيت نعرف أش كان كيشوف.. متأكد بغيتي تعرف؟ أه متأكد.. لا عرفتي غادي يضرك خاطرك.. واخا هكاك بغيت نعرف.. واخا كمل القراية باش تعرف شنو كان كيشوف..)

كنا نرى أصدقائنا وصديقاتنا يعودون إلى أهلهم حاملين دفاترهم الصغيرة أو ألعابهم ونحن نحمل أسئلة أكبر من أعمارنا: من أين يا ترى يأتي هذا الدفئ؟ ولماذا حرمنا منه؟ إنها ليست مسألة مادية فقط بل روحانية ونفسية.

حين نحرم من حنان الأم والأب يبقى في داخل الأبناء فراغ لن يملئه أحد. حين نكبر نصبح عبارة عن جسد بدون روح، نحن الذين جئنا إلى هذه الحياة البائسة دون أن نتذوق أو نعرف حنان الأهل.

وبرغم من ذلك تعلمنا أن نسير بأنفسنا، وأن نرسم الطريق بخطانا المرتجفة وأن نصنع معنى للأمان في غياب من كان يجب عليه أن يزرعه فينا.

هذه التجربة تجعلنا أكثر حساسية تجاه الفقد وأكثر قدرة على التعاطف مع الآخرين، لكنها تجعلنا أيضا أكثر هشاشة أمام الخذلان لأننا ذقنا طعمه باكرا.

وحتى إن كان جرحنا عميق إلا أنه يعلمنا الاعتماد على الذات ويجعلنا نكتشف في داخلنا قدرة غريبة على النهوض بعد السقوط. نصبح نحن الأباء لأنفسنا، نحمل على عاتقنا مسؤولية الترميم والتوازن، ونسعى لأن نكون لأبنائنا ما لم يكن لنا.

هكذا يتحول الألم إلى حكمة والفقد إلى دافع للبناء. ولعل أشد ما يؤلم في الفقد ليس الغياب ذاته بل الوعى المتأخر به. حين نبلغ مرحلة من النضج ونرى أبنائنا يكبرون أمام أعيننا ندرك فجأة أننا كبرنا دون أن نحتضن كما ينبغي.

نشعر أننا نحمل طفلا صغيرا في داخلنا لم يكبر أبدا. وبرغم من هذا كله استطعنا أن ننهض، تعلمنا الحب رغم الغياب.

كما أن غياب دور الأهل ليس قدرا أسود، بل تجربة وجودية تصنع فينا نوعا من الفهم المختلف للحياة. نحن الذين كبرنا بدون حنان وعطف تعلمنا أن نرى الرحمة في الكون لأن الله رحيم بالعباد.

وفي التجربة درسا وفي الحياة امتحانا للثبات. لم نحمل الكراهية لأقدارنا بل تعلمنا أن نقرأها بعيون الحكمة وأن نحول الضعف إلى إصرار والحرمان إلى حب مضاعف لأبنائنا وللآخرين.

هكذا نصل إلى تلك الحقيقة التي هي أن فاقد الشيء يعطيه وبقوة. فكل وجع مررنا به كان نافذة نحو وعي أعمق وكل حرمان كان درسا في الكرامة.

لقد حرمنا من حنان الأهل لكن أثره باق في الطريقة التي ننهض بها كل مرة، في دموعنا التي لا تهزمنا وفي قدرتنا على الحب رغم الغياب. تلك هي أعظم أشكال القوة التي يمنحها الفقد للإنسان، أن يظل قادرا على العطاء رغم أن أول من كان ينبغي أن يمنحه العطاء لم يكن هناك..

وتذكروا أنكم ترتكبون جريمة في حق أبنائكم وفي حق البشرية جمعاء لأنكم تنجبون أبناء أبرياء وتصنعون منهم كومة من الأمراض والعقد النفسية. يا أيها المختلون عقليا، ألن يمتلك الإنسان ما يكفي من الشفقة لإعفاء الأجيال المقبلة من قسوة الوجود؟ في الحقيقة هو لا يمتلك أدنى شفقة، حيث أنه مزال يستمر بفرض عبئ الوجود على أفراد جدد، بدم بارد جدا، ضاربا المنطق عرض الحائط..

https://anbaaexpress.ma/mp1ul

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى