إلتأم لقاء وطني نظمته وزارة الشباب والثقافة والتواصل قطاع التواصل، تحت عنوان “مكافحة الأخبار الزائفة.. مقاربات ورؤى متقاطعة”، عنوان يبدو في ظاهره استجابة ضرورية لزمن اختلط فيه الصحيح بالمفبرك، لكنه في عمقه يفضح فجوة مزمنة بين تشخيص الظاهرة والجرأة على مقاربة أسبابها البنيوية، فالأخبار الزائفة ليست نبتا شيطانيا ينمو خارج الحقل، بل هي في كثير من الأحيان عرض جانبي لبيئة إعلامية مجهدة، مفقرة، ومطالبة أخلاقيا بما لا توفر له شروطه المادية، ولذلك فإن أي نقاش حول “المناعة الإعلامية” يظل ناقصا، بل مراوغا، ما لم يبدأ من سؤال العيش الكريم للصحفي، لا من أخلاقياته المجردة ولا من مواثيق تعلق على الجدران وتنسى في غرف التحرير الباردة.
لقد قدم اللقاء، كما هو مألوف، في صيغة توافقية تجيد ترتيب الكلمات وتفادي الصدام مع الواقع، فتحدث المشاركون عن التربية الإعلامية، وعن دور المنصات الرقمية، وعن ضرورة التحقق من المصادر، وعن مسؤولية الجمهور، وكل ذلك صحيح من حيث المبدأ، لكنه يصبح أقرب إلى تمرين لغوي حين يفصل عن شرطه الإنساني الأول.. صحفي يعيش تحت ضغط الأجر الهش، وعقد الشغل المؤقت، والخوف اليومي من الطرد أو التهميش، فكيف نطالبه بأن يكون حارس الحقيقة وهو لا يملك حتى مفاتيح الاستقرار النفسي، وكيف نحمله وزر مقاومة التضليل وهو مستنزف في معركة البقاء، يكتب بسرعة لا لأن الحدث يستعجل، بل لأن الفاتورة تستعجل.
إن الأخبار الزائفة لا تنتشر فقط لأن هناك من يختلقها، بل لأنها تجد تربة خصبة في فراغ الثقة، وحين تتآكل الثقة بين الإعلام والمجتمع، يصبح الكذب أكثر إقناعا من الحقيقة، لا لقوته، بل لضعف حاملي الحقيقة أنفسهم، وهنا تتقاطع السياسة بالسيكولوجيا، فالإعلامي المقهور اقتصاديا يميل، دون وعي، إلى التساهل مع السرعة، ومع الإثارة، ومع العناوين الجاذبة، ليس لأنه سيئ النية، بل لأن شروط إنتاج المادة الرصينة لم تعد متاحة، وهذه ليست تهمة، بل تشخيص علمي لآليات العمل تحت الضغط، وهو ما تجاهله اللقاء الوطني حين اختزل الظاهرة في بعدها التقني والأخلاقي، وتغاضى عن بعدها الاجتماعي.
لقد بدا واضحا أن الخطاب الرسمي ما يزال يراهن على تحسين السلوك بدل إصلاح البنية، وعلى تأطير الوعي بدل تأمين العيش وكأن الصحفي كائن رمزي يعيش على الشعارات، لا إنسانا من لحم وقلق، وهذه المفارقة هي أصل الإشكال، فالمناعة الإعلامية لا تبنى بالندوات وحدها، ولا بالدلائل الإرشادية، بل تبنى حين يشعر الصحفي أن كرامته مصونة، وأن أجره يكفيه ليقول لا، ليؤجل النشر، ليتحقق، ليرفض الإملاء، لأن الحرية التحريرية تبدأ من الاستقلال الاقتصادي، وهذه حقيقة تاريخية قبل أن تكون مطلبا نقابيا.
إن الحديث عن مكافحة الأخبار الزائفة دون فتح ملف الأجور هو شكل من أشكال الإنكار المؤسسي، لأن الفقر الإعلامي ينتج هشاشة معرفية، والهشاشة المعرفية تنتج قابلية للتضليل، وهذه سلسلة سببية لا يمكن كسرها بالخطب، بل بالسياسات العمومية، فالدولة التي تريد إعلاما قويا لا تكتفي بمطالبته بالمسؤولية، بل تتحمل مسؤوليتها تجاهه، تضع حدا للأجور الرمزية، تفعل الحماية الاجتماعية، تضمن الاستقرار المهني، وتفصل بوضوح بين الدعم العمومي والاستتباع التحريري، لأن الدعم المشروط أخطر من غيابه، إذ يحول الصحفي إلى موظف صامت بدل فاعل نقدي.
ولعل أخطر ما في اللقاء هو إصراره الضمني على نقل عبء المواجهة إلى الصحفي وحده، وكأن الأخبار الزائفة ظاهرة تنتج داخل غرف التحرير فقط، لا في الفضاء السياسي، ولا في الخطاب العمومي، ولا في ضبابية المعلومة الرسمية، فحين تتأخر المعلومة، أو تقدم ناقصة، أو تغلف بلغة خشبية، يفتح ذلك الباب واسعا أمام التأويل والشائعة، وهنا يصبح الإعلام ضحية لا جانيا ، ويصبح الصحفي مطالبا بتصحيح واقع لم يسمح له أصلًا بالاطلاع عليه كاملا..
إن إسكات الأصوات الناقدة لا يتم بالمنع المباشر، بل بإغراقها في الهشاشة، وهذا ما يجب قوله بوضوح، فصحفي لا يتقاضى أجرا يحفظ كرامته هو صحفي مروض بالقوة الناعمة، قابل للتوجيه، سهل الإرباك، محدود الجرأة، ومن العبث مطالبة هذا الصحفي بأن يكون خط الدفاع الأول ضد الأخبار الزائفة، لأن الدفاع الحقيقي يبدأ من الداخل، من شعور الفرد بقيمته، وبأن ما يكتبه ليس مجرد سلعة رخيصة في سوق النقرات.
لقد كان اللقاء الوطني فرصة لقول هذه الحقيقة الثقيلة، لكنه آثر السلامة الخطابية، فاختار الطريق الأسهل.. توصيات عامة، ونوايا حسنة، وصور تذكارية، بينما ظلت الأسئلة المؤلمة خارج القاعة، أسئلة الأجور، والعقود، والاستقلالية، وحدود التدخل، وهي الأسئلة التي إن لم تطرح اليوم ستعود غدا في شكل أزمة ثقة أعمق، لأن المجتمعات لا تخده إلى الأبد، والإعلام الذي لا يحمي حامليه لا يمكنه حماية الحقيقة.
إن مكافحة الأخبار الزائفة ليست معركة تقنية، بل معركة عدالة، عدالة في توزيع الكرامة داخل الحقل الإعلامي، وعدالة في الوصول إلى المعلومة، وعدالة في شروط العمل، وكل خطاب يتجاوز هذه الحقائق هو خطاب يجمل المشكلة بدل حلها، ويراكم الوهم بدل تفكيكه، لذلك فإن المناعة الإعلامية التي نحتاجها اليوم لا تبنى في القاعات المكيفة، بل في دفاتر الأجور، وفي قوانين الشغل، وفي شجاعة الاعتراف بأن الصحافة لا يمكن أن تكون حرة وعادلة وهي جائعة، وأن الحقيقة، مهما كانت نبيلة، لا تستطيع أن تقاوم طويلا إذا طلب منها أن تعيش بلا كرامة.
