من القول المتعارف عليه: عدو عاقل خير من صديق جاهل، فما بالك إن كان العدو جاهلًا؟ ولذلك فإن العدو العاقل قد يقرأ حساباتك، كما يسهل عليك أيضًا أن تقرأ حساباته هو الآخر، ومن خلال تلك القراءات المتبادلة قد تمتد الجسور مع مرور الوقت للوصول إلى توافقات يرضى عنها الطرفان.
وهناك في التاريخ الحديث أمثلة تشهد عن اهتداء الأعداء العقلاء إلى الحكمة وإقامة السلام بينهم، كما حصل بين الألمان والفرنسيين حينما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، ومن كان آنذاك يتخيل هذا السيناريو بين الطرفين بعد كل ما حدث من تقتيل ودمار شامل؟
أما العدو الجاهل، ولأنه كما هو عليه من حال، يصعب عليك ملاحقته في حماقاته، وبالتالي يصعب عليك فهمه أو احتواؤه. فمن لم يفهم نفسه وإلى أين يأخذه المسير، يصعب عليك كذلك أن تجره إلى وضع خارطة طريق مشتركة. ولن يبقى أمامك سوى أن تتركه على زلاته، فلا تعانده، وإن فعلت ستدخل معه إلى حلبة صراع لطالما أراد أن يجرك إليه.
وخير ما يمكن أن تواجه به الجاهل هو أن تتجاهله. دعه يصدر ألف بيان وبلاغ، دعه كذلك يتخذ المواقف بين عشية وضحاها، فبهذا الإسهال قد يصل إلى مرحلة الجنون، وسيقع لا محال في ارتكاب الأخطاء والتناقضات. وفي هذه الحالة تراه يجلد نفسه ويشهد عليها، وقد يعفيك عن بذل أي جهد.
الدبلوماسية الجزائرية الهوجاء فعلت في نفسها ما لم تفعله الدبلوماسية المغربية الموصوفة بالحكمة والاتزان والنأي بنفسها عن الخوض في الصغائر. المغرب قدم نموذجًا غير مسبوق في الدبلوماسية العالمية، ويتجلى ذلك في الدبلوماسية الهادئة والصامتة.
وقد اعتمد المغرب في تلك الدبلوماسية على ركنين أساسيين: الأول هو عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والثاني هو احترام الوحدة الترابية للدول، فالمغرب من دعاة الوحدة لا من دعاة البلقنة. وتجسيدًا لكل ذلك، حرص جلالة الملك غير ما مرة على أن يطمئن الجزائر بأنه لن يصلها أي شر أو أي أذى من المغرب.
وبالرغم من هذه الضمانات والتطمينات، فإن الجاهل لا يلتقطها، فقد عميت بصيرته إلى حد أصبح فيه غير قادر على التمييز، مما يقود إلى التساؤل حول ما إذا كان النظام الجزائري هو العدو الحقيقي لنفسه، من خلال جهله لتبعات المواقف والقرارات التي يتخذها اعتقادًا منه أنها ستعمل على محاصرة وتطويق المغرب. ولكن ذلك النظام وجد نفسه يمارس دبلوماسية السهم الذي ارتد على صاحبه، أي لا يحيق المكر إلا بأهله.
وهذا المكر يتجلى اليوم في المأزق الذي يجد فيه النظام الجزائري نفسه، مأزق تزامن مع ظرفية لم يتوقعها النظام الجزائري، كما ليس للمغرب فيه أي ضلع، لا من قريب ولا من بعيد. فكم من حاجة قضيناها بتركها.
النظام الجزائري، بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي 2797، علقت شوكة أسطوانته على ترديد حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولم يتوقف النظام الجزائري عن تلوّيك لسانه إلا بالحديث عن هذا المبدأ أكثر من أي وقت مضى.
ومن سوء الطالع، وكأن القدر أراد أن يضع القيادة الجزائرية في امتحان عسير وأن يكشف سريرة ما تنطوي عليه، أن تزامن مع ذلك القرار الأممي إعلان استقلال دولة القبايل يوم 14 دجنبر الجاري، في قلب العاصمة الفرنسية، بقصر من قصور المؤتمرات المشهورة.
قبل أن يصطدم النظام الجزائري بهذا الإعلان، الذي رفضه رفضًا قاطعًا واعتبره مساسًا بالوحدة الترابية الجزائرية، قام بمحاولات على أكثر من واجهة، منها أنه منع سكان القبايل من التفاعل إيجابيًا مع هذا الحدث، وأزال من السطوح والواجهات كل ما له رمزية تؤيد إعلان تلك الدولة، وفرض العلم الجزائري بقوة على جميع المحلات التجارية في إقليم القبايل، والويل كل الويل لمن سوّلت له نفسه أن يناصر تلك القضية.
من الناحية المبدئية، المغرب لا يتدخل في الشؤون الداخلية للدول ويحترم سيادتها. وإذا أراد النظام الجزائري اليوم أن يبحث، كعادته، عن مسوغ يلهي به الرأي العام الجزائري ويتهرب من مسؤولياته، فواضح أنه سيحاول أن يلصق فشله بالمغرب.
بينما واقع الأمر أن النظام الجزائري هو الذي يتحمل مسؤولية سياسته الداخلية القائمة على القمع وكبت الحريات الفردية والجماعية، حيث لا مجال لحرية التعبير، ويتحمل مسؤولية حماقاته الدبلوماسية، منها عدم احترامه لمبدأ تقرير المصير، وهو المبدأ الذي يريد أن يُطبَّق على ما يسميه بالقضية الصحراوية، أي بتقسيم المغرب، ويرفض تطبيق المبدأ نفسه على قضية القبايل بحجة الحفاظ على الوحدة الترابية للجزائر. إن من أهلك هذه الوحدة هو النظام الجزائري وليس المغرب.
عقلية الكيل بمكيالين ترى أن الوحدة الترابية للمغرب يُفترض فيها أن تكون مستباحة، أما الوحدة الترابية للجزائر فهي ترقى، بحسبه، إلى القدسية، ومن اللازم أن تكون محصنة ومنزهة عن العبث.
وإذا كان النظام الجزائري يملك من الجرأة مثلما يتشدق بأنه “قوة ضاربة”، فلماذا يختبئ من وراء إصبعه ولا يواجه فرنسا التي تحتضن “الماك” فوق أرضها وتسمح بالإعلان عن استقلال دولة القبايل؟ إن الجزائر نمر من ورق، ليس لها القدرة على تلك المواجهة. فرنسا هي ولية نعمتها، فهي التي اقتطعت الأراضي من دول الجوار لكي تعطي شهادة ميلاد لكيان قُدِّر له أن يكون “الجزائر”.
لا داعي لترديد الأسطوانة المشروخة، فالمغرب يريد لكم الخير وينهج سياسة اليد الممدودة، ومن لم يصن نفسه بنفسه فلن تجد له من يصونه.




