عبدالله فضّول
لا شك أن كرة القدم أصبحت ظاهرة عالمية تتجاوز حدود الرياضة لتلامس وجدان الشعوب وتؤثر في ثقافاتها وسلوكها. وهي تُعد من أبرز أدوات الترفيه الجماعي التي تجمع بين مختلف الفئات والطبقات، وتخلق لحظات من التلاحم الوطني والانتماء الجماعي.
وقد أضحت ملاعبها منابر للتعبير عن الفرح والاحتجاج، ومناسباتها محطات مفصلية في الذاكرة الجماعية للأمم. ولا غرو أنها تحوّلت إلى صناعة ضخمة تتداخل فيها السياسة والاقتصاد والإعلام، وتُستثمر في تشكيل الرأي العام وتوجيهه.
كل الأمم والشعوب باتت تدرك أن كرة القدم ليست مجرد لعبة، بل قوة ناعمة لها تأثيرها العميق في النفوس. إنها أكثر الألعاب شعبية على الإطلاق، بما تحمله من شغف وتنافس وإثارة، وبما تتيحه من لحظات إدخال الفرح والسرور إلى قلوب الملايين، في زمن تزداد فيه الحاجة إلى ما يوحّد ويُفرح.
ترى ما موقف الإسلاميين من ممارسة ومشاهدة كرة القدم؟
بخصوص لعبها، لا أظن – فيما أعلم – من يُحرّمها ما دامت لا تُلهي عن ذكر الله، ولا تُفضي إلى تضييع الواجبات أو ارتكاب المحرمات، بل قد تُعد وسيلة مشروعة للترفيه وتقوية الجسد، وهو مقصد معتبر شرعاً.
لكن بخصوص مشاهدتها، فالأمر مختلف؛ فكثير منهم يعتبرها وسيلة لإلهاء الشعوب عن قضاياهم المصيرية، وصرفهم عن الاهتمام بالعلم والدين والواقع السياسي.
ولا يجوز – في نظر بعضهم – الانغماس في متابعتها إذا كانت تفضي إلى تعطيل الصلوات، أو التعلق المفرط بالنجوم والفرق، أو الانجرار وراء التعصب الأعمى والانفعالات غير المنضبطة.
ولا تنضبط لميزان الشرع – حسب رأيهم – إذا تحولت إلى عادة يومية تُهدر فيها الأوقات، وتُقدَّم فيها القدوات الزائفة على حساب العلماء والمصلحين. وهي بالتالي – في هذا التصور – ليست مجرد لعبة بريئة، بل أداة من أدوات (التغريب) و (التخدير الجماهيري)، يجب التعامل معها بحذر، وتقييدها بضوابط شرعية صارمة.
طبعاً، هم أقرب إلى منطق التحريم في مقاربتهم لكرة القدم، لا من باب النصوص القطعية، بل من زاوية سد الذرائع وتوسيع دائرة المحظور. فهم يُحرّمون – أو على الأقل يُشدّدون – في مسائل تتعلق بنوع اللباس الذي يُرتدى في الملاعب، سواء من طرف اللاعبين أو المشجعين، معتبرين أنه لا يستوفي شروط الستر والوقار.
كما يُدينون سلوك المشجعين، من صراخ وهتافات واختلاط وتعبيرات حماسية، ويصفونها أحياناً بأنها مظاهر من (الجاهلية الرياضية) أو (الفتنة الجماهيرية).
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يُثيرون مسألة الاختلاط في الملاعب والمدرجات، ويرون فيها مدخلاً للفساد الأخلاقي، حتى وإن كانت الملاعب تحت رقابة أمنية وتنظيمية صارمة. هذا المنطق المتشدد يجعلهم يُفرغون كرة القدم من بعدها الإنساني والاجتماعي، ويُحمّلونها ما لا تحتمل من التأويلات الفقهية، في حين أن الأصل في الأشياء الإباحة، ما لم يثبت العكس بنص صريح لا يحتمل التأويل.
كثير منهم لا يفهم في كرة القدم لا من حيث قوانينها ولا من حيث أبعادها النفسية والاجتماعية، ولا يدرك طبيعتها كلعبة جماهيرية ذات طقوس خاصة ومكانة رمزية في وجدان الشعوب.
ولا يتابعون تطورها ولا يميزون بين اللعب النظيف والتعصب، بين الشغف الرياضي والانفلات السلوكي، بل يخلطون بين الظواهر دون تمحيص. وأيضاً لا يُفرّقون بين النقد البناء والتحريم المطلق، فيُسارعون إلى إصدار أحكام قاطعة دون معرفة بالسياق أو إدراك لتأثير كلماتهم على جمهور واسع من الشباب.
ويتدخلون في كل ما لا يُحسنونه، من تحليل المباريات إلى تقييم اللاعبين إلى إصدار فتاوى في دقائق الأمور، وكأنهم أوصياء على أذواق الناس واهتماماتهم.
وهم هنا لا يُمارسون دور العالم المربي، بل يتحولون إلى حُرّاس على أبواب الفرح، يُضيّقون واسعاً، ويُحمّلون الدين ما لا يحتمل، في مشهد يُسيء إلى صورة الخطاب الديني المتزن، ويُنفّر الناس من رجاله بدل أن يُقرّبهم.
أما كرة القدم النسوية، فهذا أمر آخر تماماً في نظر كثير من الإسلاميين، إذ يُمعنون في تعسير الأمر، ولا يُبدون أي مرونة في تقبّل فكرة أن تمارس المرأة الرياضة في فضاء عمومي، ولو ضمن ضوابط واضحة.
ويُضيّقون على النساء حتى في أبسط حقوقهن في الترفيه والتعبير الجسدي، متذرعين بحجج اللباس، والاختلاط، و(الفتنة)، دون أن يُقدّموا بديلاً واقعياً أو تصوراً متوازناً يراعي كرامة المرأة وحقها في ممارسة الرياضة.
كل ذلك يتم دون حس تربوي أو وعي اجتماعي، بل بمنطق الوصاية والتخويف، وكأن المرأة لا تزال كائناً قاصراً لا يُؤتمن على جسده ولا على اختياراته، في تجاهل تام للتحولات المجتمعية، ولحاجة الفتيات إلى فضاءات صحية وآمنة لممارسة الرياضة، تماماً كما هو الحال في باقي دول العالم.




