يمثّل القول في الثقافة العربية والإسلامية أصلًا من أصول الاجتماع، وميزانًا دقيقًا لاستقامة العلاقات بين الناس.
وقد أولى القرآن الكريم للكلمة وزنها، فجعل الصدق قوامها، والتخرّص آفةً من آفاتها. في هذا السياق، يأتي هذا النص قراءةً تراثيةً تأملية في دلالة قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾، باستحضار منهج النظر الاجتماعي كما تبلور في الفكر الكلاسيكي، ولا سيما في الكتابات التي عنيت بالعمران البشري وأحوال المعاشرة.
اعلم، أيّدك الله بالرشد، أن الكلام إذا خرج عن حدّ التثبّت، وانفلت من عقال الصدق، أورث في القلوب ريبة، وفي المعاشرة كلفة، وفي الاجتماع خللًا ظاهر الأثر خفيّ السبيل. فإن اللسان عنوان الضمير، ومتى اضطرب العنوان اختلّ المقصود، وسقط الاعتماد، وفسد التواطؤ بين الناس.
وقد نطق التنزيل بحكم جامع فقال: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾، فجاء اللفظ وجيزًا، والمعنى محيطًا، دالًا على سقوط منزلة قوم جعلوا التخرّص ديدنهم، والتقدير بغير علم صناعتهم، والقول بغير إحاطة سبيلهم. فهؤلاء يكثرون حيث يضعف الميزان، وتشيع مقالتهم حيث يقلّ الاحتياط للكلمة.
والخرص، في أصل اللسان، تقدير بلا يقين، وحديث بغير شاهد، وبناء أمر على غلبة ظنّ مع إهمال للعاقبة. فإذا سرى هذا الداء في العلاقات الإنسانية، تبدّلت وجوه القرب، واضطربت معاني الثقة، وصارت المعاشرة قائمة على المداراة، وليس على السكينة. حيث تُقال الكلمة فتسكن ساعة، ثم تثقل زمنًا، ثم تخلّف أثرًا كبيرا لا تتوقع عواقبه ويُضعف ما حوله.
وتتدرّج الحال في ذلك تدرّجًا لا يُفطن له؛ فيُستأنس بحسن العبارة، ثم يُركن إليها، ثم يُعوَّض بها عن صدق الفعل. ومع امتداد الأمد، تضعف الثقة، ويثقل اللقاء، وتغدو العلاقة قائمة على الاحتمال بدل الطمأنينة والسكينة. وذلك من دلائل فساد القول، إذ يسبق أثره أثر الفعل، ويتقدّم خلله على خلل السلوك.
وفي هذا السياق، تُمدح المداومة، ويُحتجّ بطول الصحبة، ويُثنى على الاستقرار الظاهر، وتُنسى العلّة التي بها قامت المعاشرة أول الأمر. والحال أن العمران لا يستقيم بدوام المخالطة، وإنما يستقيم بسلامة المعنى المتداول بين أهله. فإذا شاع التخمين والشك، وراج التبرير، اختلّ الميزان، وانقلبت المراتب، فصار الزخرف مقبولًا، والصدق مستثقلًا.
ويعقب ذلك سهوٌ عامّ، أشار إليه قوله تعالى بعد ذلك: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾، أي غارقون في أقوالهم، غافلون عن آثارها، يحسبون أن المعاني تُستبدل، وأن الثقة تُستعاد مع كثرة الاعتذار. وهذا وهم، فإن ما أفسده القول لا يُجبره الزمن ما لم يُستعد الميزان.
فإذا نهض الوعي في النفوس، واستقام النظر، عاد الوزن إلى موضعه، وسقط التخرّص من غير خصومة ولا مجادلة. يُختبر الكلام قبل قبوله، ويُنظر في أثره قبل اعتماده، ويُردّ ما خلا من الصدق وإن حَسُن لفظه. وعند ذلك، تستقيم المعاشرة، وتخفّ المؤونة، ويستعيد القرب معناه.
وعلى هذا الوجه يُفهم قوله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، أي بطلت مقالتهم، وانقطع أثرهم، وسقط اعتبارهم في ميزان الاجتماع. فإن المعاشرة تُصان بثبات المعنى، والعمران يقوم على صدق القول، والروابط تدوم بوضوح يُغني عن كثرة الالتماس.
إن سقوط الخرص هو علامة على يقظة الوعي. فحين يعود الميزان إلى القول، تستقيم العلاقات، ويهدأ الاجتماع، ويُصان العمران من التآكل الصامت. وبذلك، يبقى النص القرآني حيّ الدلالة، متجاوزًا زمانه، شاهدًا على أن فساد الكلمة أول وجوه فساد الاجتماع.




