عبدالمجيد بن شاوية
تقديم: سيرا على درب الثقافة عموما، تتعدد الوسائط والفضاءات والأماكن والوسائل لنشر الثقافي على اختلاف مستوياته، ولاعتبار أي سلوك إنساني/ اجتماعي هو ثقافي أساسا، في أبعاده السوسيولوجية والأنثروبولوجية، وحاجة الإنسان إلى الثقافي في حياته الخاصة والعامة أيما احتياج تجعله في تفاعل مستمر مع مكنوناته وما هو خارج عنه، في إطار علاقة الذاتي بالموضوعي، على أساس إرادته الخاصة الواعية وما له علاقة بلا شعوره، من جهة، وفي تفاعل مع بيئته وما تنتجه من ردود أفعال ونشاطات في كل حقول الحياة عموما، بحسب سلوكيات الأفراد والجماعات والتنظيمات الأهلية / المدنية وغير المدنية، من جهة ثانية، دون أن نشير إلى تفاعلات الفرد المواطن مع المعطيات الخارجية في علاقاته بالثقافات والحضارات الأخرى.
ومحاولة من الفاعل الثقافي في تكريس السلوك الثقافي بالأوساط السوسيوثقافية، يسلك عدة مسالك للعمل على شيوع الثقافة بكل دلالاتها وحمولاتها بفضاءات متعددة، حيث هناك فضاءات تتولى تدبيرها مؤسسات الدولة، وأخرى تكون تابعة للخواص، وهي فضاءات خاصة يمتلكها أصحابها المدنيون، يقبلون بممارسة الأنشطة الثقافية بداخلها أو بساحاتها وباحاتها، سواء كفضاءات مفتوحة للعموم ودون تحديد مناسبات أو مواعد لممارسة الأنشطة الثقافية والفكرية والمعرفية، تكون بمثابة حلقات وصل بين الفعاليات الثقافية والمعرفية.. تعرض خدماتها لزبائنها وروادها كباقي الزبائن والعابرين.. وهنا تحضر فضاءات المقاهي بثقلها في تجليات الثقافي وتمظهراته، تكون بمثابة الواسطة بين الفاعل الثقافي والمريدين، أو بين الفعاليات الثقافية في تواصلها وارتباطاتها وحلقات دردشاتها..
وقد شهدت الساحة الثقافية العربية وغيرها تجارب عديدة عرفت باسم المقهى الثقافي، كفضاء للتواصل واللقاءات وممارسات أنشطة ثقافية بداخل المقاهي، حيث تفتح المقهى أبوابها أمام رواد ثقافيين وزبناء شغوفين ومهتمين بالشأن الثقافي والمعرفي والعلمي، سواء كفضاء للكتابة أو القراءة أو تنظيم حلقات ثقافية بها، تقدم فيها قراءات ومحاضرات وندوات وأشكال فنية موسيقية وفنون تشكيلية وعروض مسرحية ولوحات تراثية فولكلورية.. تستقطب جمهورا على اختلاف مستوياته الثقافية والاجتماعية، وهو ما يتيح إمكانية انتعاشة ثقافية وأدبية وفكرية من حين لآخر في مسار حيوات الرواد والفاعلين والمتلقين وعموم جمهور الأدب والفكر والثقافة.. تبعث على بعث الروح واسترسالها في كل مكونات الجسد الثقافي والاجتماعي والحضاري.
وفي هذا الإطار نقف عند تجربة تنظيم مدني بالمغرب حمل على كاهله هم أثقال الثقافي وأعباء المسؤولية الفكرية والثقافية، وذلك بتأسيس مؤسسة مدنية عام 2015، عرفت باسم “شبكة المقاهي الثقافية بالمغرب”، حيث تعمل على بناء جسور الفعل الثقافي بين المفكر والمثقف والفنان وكل الفاعلين الثقافيين وبين الجمهور وعموم الفئات الاجتماعية والثقافية.. من جهة، وأيضا انشغالها بالهم الثقافي في الأوساط غير الحضرية وهوامش المراكز المدينية.. من جهة ثانية، وقد أكدت مسيرتها في الإشعاع الثقافي في كل ربوع المملكة بنجاح ساطع، دون الاقتصار على المراكز الحضرية، كالرباط والقنيطرة والدار البيضاء ومكناس وطنجة …

شبكة المقاهي الثقافية بالمغرب والفعل الثقافي الممأسس بالمقهى
في ظل انحسار الفعل الثقافي وحصول اختلالات في بنياته ومدى تراجع نسبة المقروئية وأزمة مجتمع المعرفة نتيجة عوامل بنيوية، سواء كانت داخلية أو خارجية، ارتأت فعاليات وأطر “شبكة المقاهي الثقافية بالمغرب” أن تعمل على الاشتغال عبر الثقافي بفضاءات المقاهي، تكريسا لتقليد سلوكيات ثقافية كانت بنحو أو بآخر، لا تخضع لضوابط معينة، أو أنها كانت تلقائية وارتجالية في محطات معينة، في علاقة الثقافي بالفضاء العمومي المرتبط بالشارع ومؤسساته، إذ أن ممارسة الثقافي الفعال تشترط ضوابط بذاتها والتزامات في كنف المسؤولية الملقاة على عاتق من نذر نفسه للعمل على خلق حركة ثقافية وعلمية وأدبية.. بداخل الفضاءات الاجتماعية، حيث فضاء المقهى ليس بالضرورة حكرا على فئة بذاتها، يحتضن مختلف الشرائح المجتمعية وكل الزبناء من مختلف الأطياف الثقافية والمهنية دون تمييز، ومن ثمة أتت فكرة تأسيس شبكة تخص النشاط الثقافي بفضاءات المقاهي، وهو ما يعطي انطباع “الثقافي المشاعي” لدى عموم الفعاليات الثقافية والشرائح المجتمعية، حيث من حق المواطن أن ينال نصيبه من المعلومات والمعارف على اختلاف مستوياتها ومجالاتها، في محاولات جادة لتقريبها منه، وإعطائه الفرصة الذهبية لبناء وعيه وإعادة تشكيل تصوراته وحشد قواه للتأمل أكثر، والتطلع إلى معارف أخرى، وبعث روح التفكير والتدبر في واقعه وكل معطياته المادية والمعنوية والرمزية، خاصة أن ما يجعل الأمم والشعوب في رقيها وتقدمها وتطوراتها هو عمادها ركوب مراكب العلم والمعرفة والمعلومة، ويشير علماء الاجتماع إلى أن من بين عوامل وشروط تقدم المجتمعات نجد عامل “المعلومة” و “شرط المعارف”، التي تحايث سيرورات الفرد والجماعة والمجتمع عبر كل مراحل التاريخ الحضاري للأمم والشعوب.
شكلت “شبكة المقاهي الثقافية بالمغرب” رافعة مهمة للإشعاع الثقافي وقاطرة نحو مفهوم “المشاع الثقافي” في أغلبية مناطق ربوع المغرب، تجسيدا لرؤيتها للفعل الثقافي وذلك عبر الوسائل والأنشطة الممكن العمل عليها بحسب المعطيات والإمكانيات المتاحة، لبلوغ الأهداف المتوخاة من وراء مبادراتها وأنشطتها الثقافية والعلمية والمعرفية، حيث تنص في الفصل الثالث من قانونها الأساسي على الأهداف التالية من الباب الأول:
– تهدف الشبكة إلى التنسيق بين المقاهي الثقافية والأدبية، وإشعاع الصالونات الأدبية.
– نشر الثقافة أدبية وفنية أو علمية بالمقاهي والفضاءات العمومية.
– جعل المقاهي والمراكز الثقافية ودور الشباب وسطا ثقافيا بامتياز.
– دعم الأنشطة التي تنظمها المقاهي الثقافية والأدبية المنخرطة في الشبكة، وتوسيع أفق إشعاعها للتشجيع على القراءة والكتابة ومحترفاتها.
– فتح المجال أمام المبدعين لإشعاع والتعريف بإبداعاتهم.
– التشجيع على تأسيس مقاه ثقافية عبر التراب الوطني.
كما أنها – أي الشبكة – تسطر في قانونها الأساسي في بابه الثاني جملة من الوسائل والأنشطة من الفصل الرابع إلى الثامن، لتحقيق أهدافها المراد منها كسب الرهان الثقافي البناء والجاد والحضاري على المستوى الحضري وشبه الحضري على السواء، حيث في هذه الفصول تقر ما يلي:
الفصل الرابع: تنظيم لقاءات ثقافية وفنية ورياضية وندوات فكرية وموائد مستديرة وحفلات لتوقيع الإصدارات.
تحفيز الشباب المبدع.
الفصل الخامس: تنظيم معارض محلية وجهوية ووطنية للكتاب والفنون التشكيلية.
الفصل السادس: إصدار نشرات ومجلات، وطبع كتب.
الفصل السابع: تنظم الشبكة أنشطتها بمفردها أو بتعاون أو بشراكة مع جمعيات أو هيئات أو مؤسسات أو فعاليات لها نفس الاهتمام محليا وجهويا ووطنيا ودوليا.
الفصل الثامن: المشاركة في توزيع أحسن للكتاب وإيصاله إلى المتلقي.
فمن خلال هذا الجرد للأهداف والوسائل والأنشطة تتبدى للذهن أن كل ما تسعى إليه الشبكة ليس حكرا على مبادراتها ومجهوداتها الخاصة دون إشراك الفعاليات الأخرى من أفراد وهيئات ومؤسسات المجتمع المدني وأخرى ذات الصبغة العمومية، بل أن ممارساتها الفعلية الثقافية والفكرية والعلمية.. تروم التفاعل مع كل الفعاليات على اختلاف مستوياتها، فرديا وجماعيا ومؤسساتيا، لأجل الارتقاء بالثقافي إلى مستوياته العليا والتقدمية بالأوساط الثقافية والاجتماعية، وما من عمل ناجح إلا بتضافر الجهود وتكاثف الإرادات الرامية إلى الرقي الحضاري والتاريخي، إذ تنهض الأمم والدول بما يتصوره مواطنوها ومسؤولوها من أفكار وما يقرؤونه وبما يطورونه من معطيات وعلوم وتجارب ومعارف وثقافات.

شبكة المقاهي الثقافية بالمغرب من معطى ثقافة المركز إلى تكريس مشروع الثقافي بالهامش.
كما هو مأثور ثقافيا وبحسب القاعدة السوسيولوجية “الإنسان إبن بيئته”، ففي الغالب أن الحواضر والمراكز المدينية يكون للثقافي إشعاع بها بشكل مسترسل، وهو ما عهد تاريخيا بكل الحواضر عبر تاريخ الحضارات والشعوب، نظرا لعوامل تساهم في تنشيط الحركة الثقافية والعلمية.. ولانقياد الفرد بداخلها بشكل سلس للاهتمام ومسايرة الركب الثقافي ومستجداته.. بخلاف الفضاءات القروية والبدوية وشبه الحضرية، ففي غالبيتها تنعدم فيها عوامل التثقيف وتفتقد فيها المراكز والمؤسسات المنوطة بها تحريك الفعل الثقافي، ما عدا التقليدي منها كالمساجد وبعض من المناسبات تكون مسرحا لبعض من لقاءات اجتماعية وثقافية ودينية، بوتيرة متقطعة وليس لها برامج معتمدة بسبب ظروف العيش وطبائع الجمهور البدوي واهتماماته في شق كبير منها لا يطبعها الطقس الثقافي المتجدد والمنظم والمنذور للتجديد الثقافي والمعرفي.. وهو ما يجعل الطقس الثقافي محسورا وضيقا في أبعاده الثقافية، يخلو من عمليات التدوير والتحوير والتجديد والإبداع في التصورات والرؤى..
ففي غمار هذه المشاهد المعهودة في الأوساط القروية وشبه الحضرية، تأتي مبادرات الشبكة لتنشيط الحركة الثقافية بها، ومحاولات تكريس الفعل الثقافي المتجدد والنهوض به في ظل العديد من المعطيات، خاصة في وقتنا الراهن، فأمام الشرخ القائم بين الحواضر وشبه الحواضر والقرى.. وما كان معلوما من تفاوت فيما بينها في المجال الثقافي والمعرفي والعلمي.. وليس هذا فحسب، بل أن التطورات الحاصلة في حياة الكائن الإنساني بفعل التقنية قد أدخلته في دوامة أزمة الثقافي من خلال ابتعاده عن المنتديات الثقافية والتراجع الكبير في نسبة المقروئية كما أسلفنا وغياب الاهتمام بالكتاب وتنحية وسائل التثقيف الذاتية والموضوعية، وهي أزمة تعرفها المدن وشبه الحواضر بالعديد من الدول والشعوب، فحلول التقنية في كيان الفرد جعل منسوب الثقافي ينخفض إلى درجات دونية، مما حمله على عدم الاكتراث بالثقافي سواء منه الثقافي العالم أو غيره.
وما دامت المقاهي هي ملاذ غالبية الأفراد والجماهير، كفضاءات عمومية مشرعة أبوابها لعموم الزبائن، فإنها تعتبر فضاءات خصبة لممارسة الأنشطة الثقافية، ومن ثمة خلق تجاذب بين الثقافي وبين الجمهور، وخلخلة بنيات هذا الأخير التصورية حول فضاء المقهى، خاصة في الأوساط الشعبية وشبه الحضرية، مما يساهم في نشر الثقافي بمختلف أنماطه، خارج أسوار وأبراج المعلومة والمعرفة والثقافة المعهودة سابقا من جامعات ومدارس وصالونات ثقافية بالمؤسسات الرسمية والعمومية..

لتعمل شبكة المقاهي الثقافية على فكرة المشاع الثقافي بشكل ديمقراطي، تنال فيه القرى والبوادي وجغرافيات شبه الحضرية حصتها المستحقة منه ومواكبتها للحركة الثقافية كما هي معطى بالمدن، والانفتاح على الكفاءات والطاقات العلمية والفكرية والثقافية المحلية والجهوية والوطنية.
حيث تساهم في التنمية الثقافية والفكرية والاجتماعية، وذلك بدفع المواطن إلى إعادة النظر في محددات وجوديته ومعطيات واقعه لأجل البناء وإعادة البناء والإنتاج كما تقتضيه سنة الحياة التطورية، كمواطن فاعل ومنتج.. لتوظف فضاءات المقاهي بعيدا عن ما كان روتينيا ومتواترا في سلوكيات الزبائن، من تجزية للوقت وكلام في أحايين كثيرة لغو، أو نشاطات من مثل لعب الورق أو غيرها.. أو رغبة في “التبضع البصري” لكل ما يصول ويجول في الشارع العام بشكل عبثي ولا هدف جاد من وراء هذا التبضع..
خاتمة: لقد كشفت تجربة شبكة المقاهي الثقافية بالمغرب منذ تأسيسها سنة 2015 إلى يومنا هذا، وطيلة عقد من الزمن، عن تقاطعات جد هامة فيما بينها وبين تجارب ذائعة الصيت في عالمنا العربي وفي العوالم الأخرى، فأعادت لفضاء المقهى زخمه في التواصل الحميمي والمباشر بين المثقفين والمبدعين والفنانين والزبناء والمواطنين، وخلقت منه قيمة مضافة في صيرورة الثقافي، رغم الثورة الفائرة لوسائل التكنولوجيا التواصلية وما عرف بمجتمع الانترنيت.
فالتواصل المباشر بين المثقف والمواطن يجدد ويعمل على تشكيل الوعي وإعادة إنتاجه وتثويره من حين لآخر، ومن ثمة تنمية الفكر والعقل وخلق فسحات تقدمية وتطورية أمام الفرد والجماعة والمجتمع والدولة، بفضل الحركة الدؤوبة للفعل الثقافي والفكري والعلمي بالأوساط السوسيو ثقافية، وذلك بتلاقي الجهود والكفاءات والقدرات والطاقات وتدافع الأفكار والتصورات البناءة والخلاقة والمبدعة في تناغم تام، وفق منطق فلسفة تغليب كفة المصالح والأهداف العقلانية التي تكون محط اهتمامات المواطن في إطار روح حضارية تقدمية بقيمها الفضلى والمستنيرة، لأجل الأجيال القادمة.
