آراء
أخر الأخبار

رقعة إختبار الإستصغار.. حين يخدعنا شعور التفوق

الخسارة ليست رقما يضاف إلى سجل النتائج فقط، بل تجربة نفسية تهز القناعات وتعيد ترتيب الأولويات

منير لكماني – ألمانيا 

تبدو لحظات التنافس الكبرى كمرآة مكبرة لما يعتمل في النفوس، حيث تنكشف طبائع الناس وهم في ذروة الحماسة، وتتعرى المسافات بين ما يعلن على الألسن وما يستقر في الأعماق.

مباراة واحدة قد تمر على ظاهرها بوصفها حدثا عابرا، لكن من يقرأ ما وراء الخطوط يدرك أن الميدان ليس مستطيلا من عشب فقط، بل صفحة مكثفة من السلوك البشري، تكتب عليها الإنفعالات، وتختبر فيها القيم، وتوزن فيها النوايا بميزان دقيق لا يخطئ.

الميدان بوصفه مرآة

الملعب فضاء مكشوف لا يسمح بالتخفي. كل حركة محسوبة، وكل خطاً يترك أثرا لا يمحى. ما يحدث داخله لا يقتصر على تمرير الكرة وملاحقة الخصم، بل يتجاوز ذلك إلى صراع صامت بين الانضباط والاندفاع، بين التعقل والغرور، بين الوعي بالحدود والإرتهان للوهم.

لذلك، فإن كل مواجهة رياضية تحمل في طياتها درسا عن كيفية إدارة الصراع في الحياة، وعن الثمن الذي يدفعه من يغفل عن قراءة الإشارات الصغيرة.

غرور ما قبل العاصفة

حين يدخل طرف ما ساحة التحدي وقد عقد العزم على الانتصار قبل ان تبدأ الوقائع، يكون قد وضع القدم الأولى في طريق الخسارة. الثقة المفرطة لا تولد من قوة داخلية راسخة بقدر ما تنبع من إستهانة بالخصم.

وفي تلك اللحظة الخادعة، تتشكل فجوة بين التقدير الواقعي والخيال المنتفخ. هذه الفجوة هي التي تبتلع الأحلام على حين غرة، وتعيد أصحابها إلى نقطة الصفر، مثقلين بدهشة الهزيمة.

الدرس المكسور

الخسارة ليست رقما يضاف إلى سجل النتائج فقط، بل تجربة نفسية تهز القناعات وتعيد ترتيب الأولويات. غير أن الخطر الاكبر ليس في السقوط ذاته، بل في العجز عن فهم أسبابه.

من لا يحول الهزيمة إلى معرفة، سيظل أسير تكرار الأخطاء نفسها، كمن يدور في حلقة مفرغة، يلاحق الظل ويحسب أنه يمسك الحقيقة. الدرس الذي لا يلتقط يتحول الى عبء، والرسالة التي لا تفهم تعود في صورة إمتحان أقسى.

إنضباط التفاصيل

في الجهة الاخرى، يظهر نموذج مختلف يقوم على الصبر والقراءة الدقيقة للزمن والمساحة، وعلى إحترام قوانين اللعبة الظاهرة والخفية. هذا النموذج لا يراهن على الضجيج، بل على العمل الهادئ، ولا يستعجل الثمار قبل نضجها.

الإنضباط هنا ليس قيدا، بل أداة للتحرر من الفوضى. فمن يحكم السيطرة على تفاصيله الصغيرة، يصبح قادرا على توجيه مساره الكبير بثبات.

الجمهور والعدوى النفسية

الحشود ليست كيانا محايدا، بل قوة نفسية فاعلة، تبني وتدمر، ترفع المعنويات أو تثقلها. الحماسة حين تنفلت من عقالها قد تتحول من طاقة داعمة الى ضغط خانق.

الكلمات المتطايرة من المدرجات ليست أصواتا عابرة، بل رسائل مشحونة تؤثر في القرار، وتغذي الوهم، وتضاعف التوتر. هنا يتجلى الدور الخفي للجماهير في رسم مسارات لا تظهر في إعادة اللقطات، لكنها تحسم الكثير في العمق.

أبعد من الرياضة

ما يجري على العشب يعكس بنى أعمق في المجتمع، من طريقة التعامل مع النجاح الى أسلوب مواجهة الفشل. هناك من يرى في كل إنتصار حقا دائما، فيغفل عن هشاشته، وهناك من يراه فرصة مؤقتة تستوجب الشكر والحذر. بين هذين المنظورين تتحدد مصائر الأفراد والجماعات. فالذي يتعلم من المنافسة كيف يراجع نفسه، يكون قد ربح ما هو أبعد من هدف في شباك.

الصمت الذي يجيب

في نهاية كل مواجهة، يعود الجميع الى مقاعد التأمل، بعضهم مثقلا بخيبة، وبعضهم محملا بنشوة. غير أن السؤال الأكبر يظل معلقا: ماذا بقي بعد ان صمتت الهتافات؟ هل بقي مجرد رقم في ذاكرة النتائج، أم عبرة تعيد تشكيل الوعي؟ هل نتعلم كيف ندخل كل ساحة بميزان متزن، أم نظل نكرر طقوس الغرور نفسها؟ وهل ندرك أن أعظم الإنتصارات قد تهزم أصحابها إذا لم يرافقها تواضع، وأن أقسى الهزائم قد تفتح أبوابا لمن يحسن الإصغاء؟ هذه أسئلة لا يجيب عنها الميدان وحده، بل يجيب عنها ما نحمله معنا ونحن نغادره.

https://anbaaexpress.ma/r4xz1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى