آراء
أخر الأخبار

حول طبيعة القيم المشكلة لسوق العمل بالمغرب

لا يمكن تحديث سوق العمل وثوابتها إلا في إطار إنشاء مؤسسات المجتمع بذات الروابط والامتدادات غير العضوية تذهب ب "قيم الروح الأهلية المجتمعية "..

عبدالمجيد بن شاوية

إن ميادين العمل هي ميادين الحياة عامة، وهي كل وظائف الكائن الإنساني والمؤسساتي (الإنسان – الوظيفة – المؤسسة)، داخل مجتمع ما وكيان حضاري ما، لذلك يتم تقسيم الوظائف والأدوار بداخل النسيج الاجتماعي وفي كل مؤسساته ومجالاته، اعتمادا على مقاييس ومحددات معينة (قدرات طبيعية أو علمية، مؤهلات وميولات شخصية..)، حسب ما يتصوره الكائن الإنسان / الفرد / الجماعة اتجاه حقول الحياة عامة، (السياسة، الاجتماع، الاقتصاد، الثقافة، العلم، فضاءات الزمان والمكان، الحضارة..)، ووفق مدى تطور الفرد والمجتمع معا.

وإنه لمن البديهي أن تأثير الثقافة بكل بنياتها وحمولاتها ( بنية دينية، سياسية، اجتماعية، ثقافية..)، على تصور الكائن الاجتماعي لقيمة العمل، ولـ “قيم سوقه” المتداولة بداخل العلاقات الاجتماعية والمؤسساتية، ليتم تحديد وتقسيم الوظائف والأدوار على ضوئه، ومن هنا أمكننا طرح السؤالين التاليين: انطلاقا مما سبق تأطيره نظريا من أية مرجعية تتغذى مؤسسة سوق العمل بالمغرب؟ وما هي طبيعة القيم التي تشكل هذه المؤسسة؟ إن مرجعيات “سوق العمل” بكافة مكوناتها يتم تأصيلها داخل الكيان والاجتماعي والمؤسساتي من خلال ما تلقاه هذا الأخير من سلوك ثقافي يؤطر نظرته ورؤيته للدور والوظيفة، ولمحددات المراكز الاجتماعية بمفهومها العام (السياسية، الإدارية، الاقتصادية، العلمية..).

من هذا المنطلق، إن كانت الثقافة وفواعلها المؤطرة للرؤية تعتمد بالأساس على معايير تقليدية / كلاسيكية في نسج العلاقات بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، فإن “سوق العمل” وقيمها لا تسلم من هذه الرؤية ولا من الثقافي المحمول والمعمول به في كل الأنشطة والوظائف، وبالتالي لا وجود لقيم ذات أبعاد عقلانية وتقدمية وعلمية، وهذا هو حال مؤسسة سوق العمل بالمغرب بكل إحداثياتها ومكوناتها، إلا أنه إن كان الثقافي قد جدد وغير من رؤيته نحو التنظيم المعقلن لمؤسساته، ونحو القيم ذات الدلالات التحديثية والتطورية، وذات الأبعاد الحضارية والتقدمية، فإنه لا محالة سيغير مقومات “سوق العمل” فالمفهوم الأول يمكننا الاصطلاح عليه بـ”شخصا نية / ذاتية القيم ذي الجذور الثقافية التقليدية الكلاسيكية، أما المفهوم الثاني ذو الأبعاد والارتكازات الثقافية التقدمية والحداثية والممكن الاصطلاح عليه بـ”موضوعية القيم”.

ففي المستوى الأول، ذي القيم التقليدية الكلاسيكية، فإن توزيع المناصب وتقسيم الأدوار والوظائف، وتحديد المسؤوليات والتكليف بالمهام، يقوم عل إحداثيات سوسيو- ثقافية تؤطر العلاقات والمعادلات القائمة بين الأفراد والمؤسسات والجماعات في علاقاتها بسوق العمل بطابع شخصا ني / ذاتي خاص وكافة القيم المرتبطة بها، من قبيل المحسوبية، الرشوة، الزبونية، الولائية، الحر بائية، المصلحية، الوشائية، المحاباة، التسخيرية، وفواعل قيمية أخرى، مرتبطة بالقبيلة والعشيرة، الطائفة، الحزب، العائلة، الأسرة، والتوجهات الأيديولوجية وكافة القيم الانتهازية والوصولية على حساب الكرامة والحق الإنسانيين المقدسين، والقيم الأخلاقية المثالية والحضارية التحديثية التقدمية.

أما في المستوى الثاني ذي القيم الثقافية التقدمية / التحديثية، فإنه عكس الأول بالتمام والمطلق في تبني قيمه وتأطيره العام لسوق العمل، لأنه يستمد مقوماته من طبيعة العلائق القائمة بين محدداته والتي تنفي الارتباطات العضوية ومحل محلها ارتباطات غير عضوية، مما يؤثر في طبيعة القيم المشكلة لسوق العمل وتحايث الفاعلين للعمل بها، وبمستلزماتها، اقتناعا منهم بمدى مرد وديتها وفاعليتها على المستوى العام، وانعكاساتها على كافة إنتاجيات المجتمع المادية والرمزية، وإن وراء تقدم المجتمعات والحضارات ترسانة من القيم الموضوعية المعمول بها في كل مناحي الحياة الإنسانية والتي تبرهن عن السبق الحضاري وخاصة في زمننا الراهن، ومن قبيل هذه القيم نجد، الكفاءة، الأهلية العلمية، الدمقرطة، المرونة، التأهيل العملي والتقني والعلمي، تكافؤ الفرص، الأخذ بيد المبادرات الحرة وتشجيعها، علمية المناهج والمسالك في تنظيم سوق العمل، تشجيع الإبداع والخلق، التأطير القانوني الجيد، الفاعلية، المرد ودية، المكافأة على الإنتاج، التوظيف الجيد للطاقات والكفاءات، تفعيل مستلزمات الإنتاجية، تشجيع البحث العلمي، الأخذ بيد المخترعين والمبدعين، الصدق في العمل والثقة في التكليف به، الإتقان.. وغير ذلك.

بين هذا وذاك، تبدو الفوارق والفواصل واضحة وجلية لكل متأمل لسوق العمل وقيمها ومدى التجليات المرتبطة بها في مغربنا المعاصر، إلا أن هناك توجهات تعيش مخاضات بين المد والجزر في تبنيها للتحديث العقلاني ومجابهتها للتقليد الرجعي، والتي تنزع إلى الحد من مظاهر سلبية قيم سوق العمل، وتحايث كائناته إلى تحديثها بشكل علمي وعقلاني والعمل على تجاوز ما من شأنه أن يخل بتوازناتها ومعادلاتها الكفيلة بتحقيق موضوعية القيم، لكن لوجود المثير من المعيقات والمثبطات في وجه مسيرة الدمقرطة والعقلنة والتحديث الشاملة لهذه السوق بكل مكوناتها وملابساتها، وخاصة منها محددات وفواعل العلاقات ذات الارتباط العضوي، بالجهات التي لها مصالح في تأبيد الأوضاع عامة، سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، وأيديولوجيا، ليتم بالتالي تثبيت وتكريس رؤساء اتخاذ القرار والنافذين إداريا وسياسيا والفئات المهيمنة والمسيطرة على لعبة الاقتصاد والسياسة.

إضافة إلى الجهل والأمية اللذين يعيقان وعي وفهم الجماهير والفئات المستغلة، للتصدي لقواعد اللعبة، وكذا إنجاح محاولات تكريس وتجسيد ثقافة الروح الفر دانية المقيتة “أنا ومن بعدي الطوفان”، المتداولة بشكل صارخ في خطابات وسلوكات الأفراد والجماعات مما يترتب عنه ضياع حقوق عديدة وإهدار الطاقات والموارد البشرية الهائلة.

إن الدعوات المتكررة والمتعددة للتحديث وعصرنة القيم بشكل علمي وعقلاني، والتي تطالب بإنشاء مجتمع حداثي، تصطدم بالتقليدية و “قيم الأهلية المجتمعية” الرجعية التي تؤسس العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على الارتباطات العضوية ومن بينها علاقات سوق العمل وقيمها.

وفي الأخير، لا يمكن تحديث سوق العمل وثوابتها إلا في إطار إنشاء مؤسسات المجتمع بذات الروابط والامتدادات غير العضوية تذهب ب “قيم الروح الأهلية المجتمعية” إلى أرشيفات الكلاسيكي الماضي الغابر لتحنط بخانة الزمن الذي أوجدها بداخل رفوفه، وكذا دولة قوية مؤطرة بالسياسي العلمي، منظمة لكل العلاقات والمؤسسات، تجسد فعلية الإرادة الجماهيرية وطموحاتها الحضارية التقدمية بشكل مادي ومعنوي، وتعمل على عقلنة  وترشيد ودمقرطة كل شيء بداخل المجتمع، وتأهيل مواطنيه لمجابهة التحديات المطروحة، وضمان العيش الكريم والعمل والحق فيهما تجسيدا لكرامة الإنسان المغربي المقدسة، والحسم مع إشكاليات الفقر البنيوية..

لنطرح السؤال التالي، إلى متى سيتم ترشيد الطاقات وقدرات الموارد البشرية واستثمارها في سوق العمل المغربية على جميع مستويات ومجالات حياة الكائن الإنساني المغربي في جوانبها الخاصة والعامة اعتمادا على معايير “موضوعية القيم”؟.

* كاتب مغربي

https://anbaaexpress.ma/izb2r

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى