منذ قرابة العامين، والفكرة تراودني كما تلازمني وجدانًا وعقلًا، على أن أرتمي في أحضان كتابة شيء ما عن الموال الأمازيغي المعروف باسم “تموايت”. لا أدري عن السبب أو الأسباب من وراء هذا التأخير، إن صحّ القول عنه تأخيرًا، وقد يُفهم اليوم على أنه كان تريثًا، بمنظور ما طرأ من مستجد على أرض الواقع. والمستجد يتمثل في حفل الافتتاح الذي تابعناه بمناسبة انطلاق البطولة الإفريقية لكرة القدم.
وفي بداية ذلك الحفل، أذنت المؤذنة الأمازيغية بصوتها الملائكي عبر موال “تموايت”، إيذانًا ببزوغ فجر جديد للعرس الرياضي الإفريقي. موال، كما هي عادته، أسر قلوب وعقول الجماهير على مختلف أجناسها، وامتد إشعاعه مباشرة إلى كل الألوان البشرية في مختلف بقاع العالم: من زنجي، وأصفر، وأبيض، وقمحي. كل العيون كانت شاخصة، والآذان صاغية، على اختلاف أشكالها وأنواعها، استوعبت المشهد لتذكر الجميع بأن هذا التراث ليس فقط مغربيًا، ولا هو قاريًا، بل هو عالمي، وأكبر من ذلك، حامل لرسالة إنسانية عابرة للمكان والزمان.
“تموايت”، لك أن تسميها ما شئت، ولا يمكن لك أن تحصرها، من منظور الترجمة فقط، في كلمة “المرافقة”. فكل التعاريف تسعها، أي المرأة الأمازيغية كمرافقة، احترامًا لواجهة الأب والزوج، لكنها متعددة الاختصاصات في وظائفها، وفي أدوارها الثنائية والاجتماعية والقبلية، وفي تدبير الشأنين العائلي والعام. تشتغل في صمت، وتأبى الظهور، ولعل في ذلك يكمن سر قوتها.
وعادة ما تتكون مقطوعة “تموايت” من بيتين شعريين، وأحيانًا ثلاثة أو أربعة، يتم ترديدها على لسان امرأة تتميز بخامة صوتية قادرة على إيصال الرسائل بحسب المناسبات المتعددة.
أشهر النساء الأمازيغيات اللائي عرفن بهذا اللون الأمازيغي نجد، في مقدمة ذلك، الأيقونة “يامنة ن-عزيز” في بداية ستينيات القرن الماضي، وأعقبتها شهيرات في هذا اللون منهن: “تامهاوشت”، “شريفة”، “عيشة بولمزوغ”، “رابحة لبكريت”، “يامنة ن-عقا”، “عيشة أولت بوحماد”، والقائمة طويلة من النساء اللائي يشهد لهن التاريخ بتميزهن في هذا التراث اللامادي.
أما الموال الأمازيغي، فهو أكبر من أن ينحصر في لون معين من الألوان الفنية، فهو لحن، وفن، وتراث، وشعر أو زجل بالفطرة، والارتجال، وسرعة البديهة، والجواب على طرف اللسان. وأكثر من ذلك، يعد رسالة تنبض بالحب بصوت امرأة ينبذ الكراهية، ولا ينطق إلا بالمودة والتسامح والتعايش. نداء “تموايت”، من بين ما هو عليه، هو دعوة للسلام على لسان المرأة التي تتفوق على الرجل في صناعته، فالخير منها، لا تظلم ولا يُظلم عندها أحد.
ولأن رسالة “تموايت” هي رسالة المحبة والسلام، فلا يليق لها إلا صوت امرأة يتدفق بمشاعر الحنان والنعومة والدفء، على خلاف الأوتار الخشنة في حنجرة الرجل.
المواضيع التي تتناولها “تموايت” كثيرة ومتنوعة ولا حصر لها، وهو الفن الذي يضرب المواعيد مع كل الأحداث، صغيرها وكبيرها.
وحينما تصدح المرأة الأمازيغية بصوتها في مجال الحب، فهي توفيه حقه كل الوفاء، بكلمات لن تجد لها نظيرًا من حيث الوقع والتأثير في كل لغات العالم، وكذلك في جمالية التصور واتساع المجال في مخيال ما يحمله العقل الأمازيغي من جينات تساعد على المزج بين الأحاسيس الصادقة، ومدى تأثرها بمكونات الطبيعة المحيطة من جبال ووديان وغابات، وهي جميعها حاضرة في سمفونية الحب، سواء تجاه الفرد، أو الجماعة، أو تجاه الوطن.
فالحب في المخيال الأمازيغي، كما تعكسه “تموايت”، هو الحب الذي يهزم الموت وينتصر للحياة، وأن الشعر الأمازيغي هو الحب في مفهومه الواسع: حب الحياة، حب العدالة، وحب السلام.
فكما يقول فطاحلة هذا الموال، إن الكلمة تحتمل أكثر من معنى، وتتحكم في المصائر. فبالكلمات نحب، وبها نقيم العدل والمحبة والأخوة والسلام. فالشعر الأمازيغي، والموال واحد منه، يعد من الركائز الأساسية لهذا الموروث، والضامن لمعركة سياسية، وللحفاظ على الهوية الأمازيغية.
هذا الشعر الأمازيغي الذي تردده “تموايت” هو ذاته، في إيقاعه وسياقاته، الذي يتردد في ثنائية أحيدوس وأحواش، والذي يُتغنى به في العديد من المناسبات، كالزواج “إسلي وتاسليت”، وفي مناسبات المآتم، والختان، وفي موسمي الحرث والحصاد.
الموطن الأصلي لتموايت يستقر فيه الكبرياء والشموخ عند الإنسان الأمازيغي، ولذلك كان مسقط رأس هذا الموال، وما يزال، هو قمم جبال الأطلس. هذه الجغرافية فرضت نفسها لكي تتغنى المرأة الأمازيغية من فوقها، وتصدح بصوتها وهي ترعى الغنم، للتواصل مع مثيمها برسائل مشفرة تحمل مشاعر الحب والعشق. ومن ذات القمم كانت تبعث برسائل غنائية إيذانًا بحلول المستعمر، لحشد الهمم لدى رجال المقاومة من أجل إعداد العدة والعتاد في مواجهة العدو.
فبالعودة إلى “تموايت”، كما أشرنا سابقًا، على أنها تعني “المرافقة”، والمقصود بتلك المرافقة هي المرأة الأمازيغية التي تنشدها، وهنا وجب التدقيق أكثر، بأن المرافقة هي بمفهوم “المواكبة”. وللتأكد من ذلك، لا بد من الرجوع إلى المهام الموكلة إلى المرأة الأمازيغية، لأن الأصل في التسمية يعود إلى الشخص أكثر من القصيدة المتغنى بها.
مهام المرأة الأمازيغية يغلب عليها طابع المواكبة لأعمال وأنشطة الأب أو الزوج أو زعيم القبيلة. مكانتها في المجتمع الأمازيغي، كونها متعددة الوظائف داخل الأسرة الصغيرة، حيث هي الساهرة على تربية الأبناء، وهي التي تتولى تدبير الشأن الاقتصادي للعائلة، بمثابة الخازن العام، ولها رأيها النهائي في تزويج الأبناء والبنات.
وعلى مستوى القبيلة أو العشيرة، تكون المرأة الأمازيغية خارج البيت مجردة من أنوثتها، امرأة بألف رجل، سواء في الأسواق أو في الاجتماعات التي تتناول قضايا القبيلة، حيث يُعتد برأيها. كما لها دور مشهود في مهرجانات الفلكلور الأمازيغي، حيث تلعب دور قائد فرقة أحيدوس، أو تكون منكبها على منكب الرجل بالتساوي في مهرجانات أحواش.
وكما يقال: الشاعر ابن بيئته، وهو ما ينطبق كذلك على “تموايت”، فهي ليست إلا تتويجًا وانعكاسًا لمسار تاريخي حافل بالأدوار الريادية التي لعبتها، وتلعبها، المرأة الأمازيغية في مختلف أوجه الحياة العامة للمجتمع الأمازيغي. وقد كان للمرأة الأمازيغية تاريخيًا فضل كبير في بناء الإمبراطوريات أو الدول.
ففي شمال إفريقيا لعبت الملكة الأمازيغية “ديهيا”، التي أطلق عليها العرب اسم “الكاهنة”، دورًا بارزًا في محاربة الغزو الأموي الذي جاء لنشر الإسلام في الديار الأمازيغية بالسيف والقوة.
وقد لقنت تلك الملكة المحاربة درسًا لعقبة بن نافع، الذي جاءها غازيًا، فعاد من حيث أتى يجر خيبات الهزيمة والذل. واستطاعت هذه الملكة أن توحد القبائل الأمازيغية من حولها في مواجهة أي عدوان خارجي، ولم يتم القبول بالإسلام إلا بعد أن جاء حاملًا لرسالة المحبة والسلام.
والتاريخ يتحدث أيضًا عن ريادة المرأة الأمازيغية ومساهمتها في بناء دولة الأدارسة، حيث يعود الفضل فيها إلى كنزة الأوربية، وأصلها من قبيلة أمازيغية اسمها “آيت وريبل”، تقع في منطقة ما يعرف اليوم بتلال تمتد بين وادي بهت في اتجاه هضاب مدينة وليلي.
هذه المرأة تزوجها مولاي إدريس الأول، الذي فر من الاضطهاد العباسي، لكنه بالرغم من ذلك تمت ملاحقته وقتله مسمومًا على يد سليمان بن جرار، تاركًا خلفه نواة لتوطيد الدولة على يد زوجته الأمازيغية كنزة، وابنه الذي كان جنينيًا في بطن والدته.
حملته بكل صبر وجلد وشجاعة، وحثت القبائل الأمازيغية على الالتفاف حولها، وأن الخلف آتٍ لمواصلة بناء الدولة. واستطاعت أن تجمع كل القبائل للحفاظ على نواة الدولة، وكذلك حصل. وتأسست دولة الأدارسة، فاختارت لها كنزة الأوربية عاصمة وهي مدينة فاس، التي تشهد لها إلى الآن بعض الأماكن بحملها لأسماء أمازيغية، مثل منطقة “زلاغ” و”تغات”.
المرأة الأمازيغية الثالثة التي كان لها الفضل، هي الأخرى، في كتابة تاريخ المغرب، هي “زينب النفزاوية”، زوجة مؤسس دولة المرابطين الأمازيغي يوسف بن تاشفين. يتحدث التاريخ عن هذه المرأة بأنها كانت شخصية قوية، وماسكة بناصية العلم والمعرفة، وذات ذكاء حاد. كان زوجها يوسف بن تاشفين يستعين بها، كمرافقة أو كمواكبة، في تدبير وتسيير شؤون الدولة.
وقيل إن زوجها الملك يوسف كان يستشيرها في بعض القضايا الشائكة، منها مواجهة قوافله التجارية المتجهة إلى جنوب الصحراء مشاكل عويصة، من قبيل هجمات قطاع الطرق. وقيل إن زوجته زينب هي التي أملت عليه الحل بتعمير مكان تواجد القطاع، وهو المكان الذي يعرف حاليًا بمدينة مراكش، التي اتخذها يوسف بن تاشفين عاصمة لدولته.
إذن، حكاية “تموايت” هي حكاية لهذا التاريخ كله، وإن كان هذا الفن من الغناء تنشده النساء، فلأن في ذلك اعترافًا بمكانتهن عبر التاريخ، وعبر الأزمنة الغابرة. فتموايت هي أسلوب حياة ونمط عيش، وأن هذا التراث قائم ومتجذر كما هي تلك الجبال التي احتضنته.
ومن يحاول القفز على هذه الحقائق التاريخية فهو واهم وآثم. فخطاب أجدير عاد إلى الأصول، ووضع اللبنات الأساسية التي لا يمكن التنكر لها ولو كره الكارهون، ودستور المملكة كان خير من اعترف بهذه الحقائق التاريخية، والفضل في كل ذلك يعود إلى جلالة الملك.
وحينما تم افتتاح البطولة الإفريقية لكرة القدم بموال خرق الصمت المريب، أعاد إلى الأذهان بأن هذه الأرض أمازيغية كانت وستبقى ملكية حتى النخاع، وسيبقى لحن “تموايت” حاضرًا بكل قوة، في كل مكان، وفي كل زمان.
