أعادت مواقف صادرة عن أحد أبرز الجنرالات الإسبان إلى الواجهة نقاشًا حساسًا حول حدود الثقة بين مدريد والرباط، في لحظة إقليمية ودولية تتسم بتغير موازين القوة والتحالفات.
فقد أثارت تصريحات الجنرال ميغيل أنخيل باليستيروس، أحد الأسماء الثقيلة في المنظومة العسكرية والأمنية الإسبانية، جدلًا واسعًا بعد تحذيره مما اعتبره “طموحات مغربية مقلقة” تمس أراضي خاضعة للسيادة الإسبانية.
وفي حوار صحفي مع جريدةelperiodico الإسبانية عبر باليستيروس عن قلقه من التحالفات التي نسجها المغرب خلال السنوات الأخيرة، معتبرًا أن التقارب مع الولايات المتحدة، إلى جانب العلاقة المتنامية مع إسرائيل، يمنح الرباط أدوات استراتيجية متقدمة، قد تفرض – بحسب قراءته – معادلات جديدة في غرب المتوسط.
ورغم إقراره بأن هذه التحالفات لا تستهدف إسبانيا بشكل مباشر، إلا أنه ربطها بالسياق الإقليمي الأوسع، خصوصًا التوتر القائم بين المغرب والجزائر، محذرًا من انعكاساته غير المباشرة على الأمن الإسباني.
ويذهب الجنرال أبعد من ذلك حين يشير صراحة إلى ما يصفه بـ“مطالب مغربية جدية” تتعلق بسبتة ومليلية وبعض الجزر المتوسطية، معتبرًا أن التعاون الوثيق مع المغرب في ملفات حيوية كالهجرة غير النظامية ومكافحة الإرهاب لا ينبغي أن يحجب، من وجهة نظره، ضرورة ترسيم خطوط حمراء واضحة بشأن ما تعتبره مدريد غير قابل للنقاش.
قراءة هذه التصريحات تتجاوز بعدها الإعلامي، بالنظر إلى وزن صاحبها داخل دوائر القرار الإسباني. فباليستيروس ليس مجرد عسكري متقاعد، بل شخصية لعبت أدوارًا محورية في صياغة التصورات الأمنية للدولة، وتقلدت مناصب حساسة، من بينها إدارة الأمن الوطني، وهي مؤسسة ترتبط مباشرة برئاسة الحكومة وتضطلع بمهام استراتيجية تتجاوز البعد التنفيذي إلى الاستشاري.
كما ظل، حتى بعد مغادرته منصبه الرسمي، فاعلًا في ملفات أمنية دقيقة، ما يمنح مواقفه دلالة سياسية غير مباشرة.
في المقابل، يلاحظ متابعو العلاقات المغربية الإسبانية أن الرباط تتعمد، في خطابها الرسمي، تفادي الخوض في ملف السيادة على الثغور المحتلة، مفضلة التركيز على مجالات التعاون العملي وبناء الثقة التدريجية.
وقد عكس هذا التوجه عدد من التصريحات الحكومية المغربية الموجهة للإعلام الإسباني، والتي شددت على أن إثارة هذا الملف خارج سياقه السياسي والتاريخي لا يخدم مناخ الشراكة القائم.
وتكشف هذه المفارقة في الخطاب بين الطرفين عن تباين في مقاربة مفهوم “التهديد” و“الطمأنة”، حيث تنظر بعض الدوائر الإسبانية إلى صعود الدور المغربي بقلق استباقي، في حين ترى الرباط أن تعزيز شراكاتها الدولية يندرج ضمن منطق سيادي طبيعي، لا يستهدف أي طرف بعينه.
وفي هذا السياق العام، تكتسب تصريحات باليستيروس معناها الكامل إذا ما وُضعت في سياق سياسي أوسع، خاصة أنها صدرت بعد فترة وجيزة من دينامية سياسية إيجابية بين البلدين، توجت باجتماع حكومي رفيع المستوى في مدريد، تجنب عمدًا إدراج ملف سبتة ومليلية في جدول أعماله، مكتفيًا بتأكيد أسس التعاون الاستراتيجي والدعم الإسباني لمبادرة الحكم الذاتي المغربية.
وهو ما يجعل من هذا الجدل مؤشرًا على أن مسار التقارب، رغم متانته الظاهرة، لا يزال محفوفًا بهواجس تاريخية كامنة لم تحسم بعد بشكل نهائي.




