آراء
أخر الأخبار

تصدّع المعنى وهيمنة الوعي المسيخ.. إنها جغرافيا سياسية بلهاء

إنّ ذروة الإمبريالية هي بداية انهيار نسقها الهيمني، ولكنه انهيار تحكمه قوانين العجز الكامن في قلب شطط القوة، ويرتهن أيضا إلى قانون القصور الذاتي للوعي المسيخ..

يصعب تشخيص الوضع بصورة نهائية، لا أحد يملك قرار الحكم بنهاية تاريخ الصراع، يسعى الاحتلال وخلفه نسق من الهيمنة الإمبريالية لتعزيز سيادته على الأرض.

لنتذكر أن هنتنغتون نفسه اعتبر أن هذه الهيمنة مستحيلة، فلم التكرار؟ ولكن يبدو أن الحكاية لا أفق لها، ولم يعد الوعي الشقي تعبيرا عن حكاية العبد لحظة انكساره واغترابه وهزيمته، بل هي حالة الاحتلال ومن اعتمدوا التلويح بالحسم.

إنّ ذروة الإمبريالية هي بداية انهيار نسقها الهيمني، ولكنه انهيار تحكمه قوانين العجز الكامن في قلب شطط القوة، ويرتهن أيضا إلى قانون القصور الذاتي للوعي المسيخ.

الحديث هنا ليس مع الشكل الأرعن للوعي الشقي، وعي الاعتراف المسبق قبل نهاية الصراع، إنما القضية تتعلق بوضعية الصراع الكبير، وحالة الوعي الشقي الذي تجعل من السياسات الصغرى حالة تشبه الملهاة السياسية.

هذا التّرنّح، هذا التكرار للأخطاء في تقدير القوى، سوء تدبير الروافع التي ترسي قواعد الاشتباك، تحليل الأوضاع خارج مفهمة فلسفة السياسة، الرهان على القوانين الدولية المسطورة/المعطّلة، لا قوانين القوة والردع النشطة.

قدر الأمم التي تواجه الهيمنة أن تمانع قدر الوسع. السياسة حق مهما بدت مستباحة للخطأ. ثمة ما هو أسوأ من غباء السياسة، ألا وهو تحويل الأزمة إلى قيم تجارية، حتى لا نتحدث عن الحياد الذي يخرج الكائن من صفة المثقف، لأن هذه الأخيرة لم تمنح إلاّ لمن حمل عبئ الدفاع عن القيم الإنسانية بوسائل الممانعة المعرفية والسياسية.

لو كانت الأخطاء المعرفية تظهر في صورة هزائم، لأدركنا كم هي اندحارات خطاب المغالطة، لكن هذا هو واقع السياسة من حيث هي مرتهنة للعقل العملي، ومن حيث أن قضيتها هي الشّأن العام. قدرنا أن نكون سياسيين، لأن من أنكر السياسة، فهو غير مدرك أنها ستمارس عليه قهرا أو سيمارسها بمخاتلة وانتهازية. البلاهة كالانتهازية ملّة واحدة، وهي حالة من التلوث العاصف بالوعي في بيئة الإنسان.

ولأن المشهد يعكس الحماقة بامتياز، ولم يعد هناك سوى سرديات عبثية حول ما يجري وما سيجري، واستفحال تهتّك الكهانة السياسية وضمور المعنى في حقل السياسة وتحليلها، هل تكفي إيماءاتنا البهلوانية وبلاهة البرققة والتلويح؟ إنّ الواقع المتخلف يفرز مظاهر البلاهة بامتياز.

لا زال الجهل يحكم رؤيتنا للواقع، فلا نرى إلاّ بغرائز السياسوية ومزابل الشعارات التي أطعمت المنطقة هواءً ملوّثا. تقعُّرات العقل العربي تحتوي على ذاكرة موبوءة بالدوغما الفائقة ، ما يجعل حاجة طليعة الوعي إلى فكّ أواصر الوفاء للتكرار غير المنتج، والمضي بشجاعة نحو ابتكار أنجع ما تتحرر به الإرادة. إنها لجريمة أن تتحايل النخب المزيف على العقل العربي لمزيد من تحطيمه؛ يتواطأ في ذلك السياسي الأبله والمثقف الزائف.

إنّ الغاية من إخضاع العقل العربي للإهانة، هي إرغام المثقف الحقيقي على الاستقالة ودفعه نحو الإحباط. هذا الوضع الكاريكاتيري الجديد الذي أُخضعت له الجغرافيا السياسية العربية، هو ردّة نياندرتالية سياسية، عصر الأشباح، نهاية الأورغانون، وميلاد الزواحف البشرية.

ننهض كل يوم ويصدمنا التكرار. لا نراهن على تطور الوعي، بل نحرس انحطاطه. لا تفعل فينا الأزمات ما تفعله في الأمم الناهضة، فمع كل أزمة يترنح العقل العربي، ويعمد إلى إعادة إنتاج علل التخلف، يفعل ذلك بثقة خادعة بالنفس الأمارة بالانحطاط.

تعلمنا تجارب الأمم الكثير من لواعج تلك النفس الأمارة بالانحطاط واللؤم. لقد هيمن الغباء والحقد على كل واجب وجميل، وسطا الدجل على المفهوم والمصداق. لقد انكسر معيار الحقيقة وتشعبت طرق الإنصاف.

حين يفقد أهل النهى بصيرة التمييز وحدس الحقيقة، يصبحون في مهب الريح وسيرة لا مساس. لم تهزمنا البلاهة ولم يستغفلنا الدجل، إلا حين تشابهت القلوب واختلطت الأوراق. أجل، لسنا اليوم إزاء حالة تخلف بسيط، بل نحن إزاء حالة مسخ أصاب الوعي، فانصب علينا شلال البلاء.

https://anbaaexpress.ma/0uft8

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى