آراءثقافة
أخر الأخبار

بيت الحكمة.. الذاكرة المشتركة وشعرية المكان

اقرأ "عراق" بالمقلوب، فستجد فعل "قارع"، وها هو ذا يقارع الحصار والنكبات برصيد جيل جديد من الأمل، ويبلي في ذلك البلاء الحسن..

لم يكن التئام المؤتمرين في الملتقى الدولي حول فلسفة الأخلاق الذي دعى له مركز تجديد للثقافة والمعارف واحتضنه بيت الحكمة، حدثا عابرا كسائر المؤتمرات التي تشهدها العواصم العربية، بل كان تظاهرة فكرية استطاعت أن تحيي الروابط العربية بين سائر الوفود التي أتت من سائر الاقطار العربية، من المغرب والجزائر وتونس ومصر ومسقط وسوريا ومن سائر المحافظات العراقية، بل سيشد عصبها بذاكرتها الحضارية، حيث بيت الحكمة ورمزيته التاريخية، كمشتل لأولى أشكال التفاعل العلمي والفلسفي الذي شع على العالم الإسلامي وأوربا، في تحول حضاري مشهود في تاريخ الأمم وتجاربها.

تشعر في بيت الحكمة بأنك في قلب مصنع للأفكار المؤسسة لنهضة العرب: الفلسفة والكيمياء والفلك والطب.. يوم كان العالم غاطا في جهله وتخلفه، كانت بغداد تحتضن بيت الحكمة، مصهر الآغورا العربية، ومختبر الثقافة العالمة.

اليوم تعود الحياة إلى بيت الحكمة، خير بؤرة لتفجير الطاقات العربية وشدها الى الذاكرة الحضارية المشتركة من دون حساسية متخلفة؛ فالكرم العراقي كفيل بمحق كل طاقة سلبية. هنا شعرية المكان، وهنا تختفي المواجع وتنطلق من جديد روح حضارية لدى جيل واعي برسالته الحضارية، جيل ما بعد الآلام والمواجع.

في هذا الأفق الذي احتضنته مجلة أخلاق، الأولى التي عنيت بهذا العنوان التخصصي عدم له نظير في الوطن العربي، وهي اليوم في تظاهرتنا ترسم معالم البدايات لاستئناف نهضة معرفية ستجد صداها وتوائمها في أكثر البؤر إشعاعا، في مشرق هذا الربوع ومغربه.

يحتاج بيت الحكمة إلى تعزيز العبر-مناهجية، لأنها ستجنب هذا الاستئناف الحضاري توابع الصدام المناهجي في بدايته. وحين يشتد العناد في هذا الصدام في مقتبل عمر الاستئناف، سيتحول إلى أيديولوجيا صماء يحيلنا إلى وضعية القردة الثلاثة: لا تسمع، لا ترى، ولكنها هذه المرة تتكلم كثيرا.

العبر-مناهجية لا تريحنا فقط، بل هي تمكين واختمار به يتحقق التجاوز، ليس فيما بين المناهج فحسب، بل فيما يتعلق بالقفزة الوجودية الكبرى. هنا تصبح الاثيقا قضية موصولة بتطور الوعي وأيضا موصولة بالكينونة. لنتحدث اذن عن تجليات القيم في سياق فينومينولوجيا الروح، وعن تجليات القيم في خبرة الدازاين.

يلهمنا بيت الحكمة منظورا آخر للقطيعة، يقوم على دربة واثقة في تهذيب الوافد من الثقافات واختباره. هنا يعتبر الحياد الاكسيولوجي تجاه الرغبة في التقدم موقفا لا أخلاقيا.

نحن على كل حال أمة ممتلئة بميراث فلسفي وعلمي تكمن قوتها في ثنائية الانفتاح والتهذيب، ألم يكن ديدن واحد من أقطابها، جابر بن حيان، واعيا بأهمية الانفتاح والأمانة العلمية حين قرر بضرورة نسبة الأفكار إلى أصحابها في وقت مبكر ؟!

الأمم المتحضرة تتجاوز مواجعها، ضعفها، أخطائها، تخلفها، فهي حتى حين تتعرض لكبوة تاريخية، سرعان ما تحقق العودة إلى الذات بالحق.

العراق الذي لم يتخل عن حقه في الإشعاع الثقافي

يبدو أن إرادة العراقيين فاقت كل محاولات الاجهاض وخيبة الأمل، فالأمم العريقة تتجاوز مواجعها وتعود إلى أصلها، لترسم لنفسها أفقا حضاريا ينتصر على انكساراتها. لقد استنزف صندوق باندورا المرصود للعراق، فأبوا إلا أن يملؤوه بارادة الحياة والمعرفة ويعيدوا تصديره إلى العرب. كانت بغداد ملتقى تيارات المعرفة ومسرحا لتدافعها.

يبدو أن الإصرار على تدشين عهد الإشعاع الثقافي في سياق مشحون بالتهديد الوجودي، هو قرينة على أن نداء الحضارة ينتصر على الهمجية. هناك ملحمة من التأسيس الثقافي يرمي إلى تحقيق مخرجات تعيد الأمل وتزرع التفاؤلية لبلد أرادوا له في لحظات عصيبة أن يصبح بؤرة لثقافة الموت ومنجما لإنتاج التطرفات، لكن العرق الدساس لعصر الإشعاع الحضاري يأبى على الأمم العريقة الاستسلام لهذه الهندسة الإمبريالية التي خسرت رهانها في سياسة الضم الثقافي. العراق اليوم يولد من رماد الحرب، ولم يجد عن الثقافة بديلا، عراق آمن بأن يكون مثقفا أو لا يكون. هنا انكسرت رماح هولاكو، وانتصرت الثقافة على السيف.

اليوم نستطيع أن نتفاءل بمستقبل عراق تتدافع فيه منابع الثقافة وتبحث لها عن جسور إشعاع ثقافي يعزز الاستجابة اليقظة لكل التحديات المحدقة ببلد قرروا أن يقضموه قضما، قبل أن تنقلب الصورة، فالعراق يرسم خريطة بقاء وتفوق من داخل ما يبدوا فوضى خلاقة ارتهن لها شرقنا الذي ينطوي على سردية ألف ليلة وليلة من المناورة للإطاحة بشرق أوسط جديد تقوده الهمجية، شرطه أن يعم اليأس شعوب المنطقة.

إن المواجهة كانت وستظل حضارية، وعلى الهمجية أن تدرك بأن الشرق ينطوي على إرادات لن تتخلى عن كسر قيود الهيمنة الثقافية وبالتالي تغيير ملامح الشرق. فالنخب المثقف الجديدة تستدرك كل هذا الفراغ، وتسعى لتعويض مخرجات توقف الزمن الثقافي في معركة الاستنزاف.

وعلى امتداد أيام من المحاورات والنقاشات مع نخبة الثقافة العراقية حول موضوعات شتى، كنت أنا المحبط بما تعرض له الشرق من مؤامرات التخريب الممنهج، من كل هذه الفوضى التي داهمت المنطقة، بأن العراق مدرك لمهمته التاريخية، وبأنه ذخيرة حضارية تنهض في شروط معقدة وصعبة، لكنها تسير في الاتجاه الصحيح.

أعلق أملا فائقا على جيل العراق الجديد. لقد لفت انتباهي تشكل رعيل يفيض إصرارا وتفاؤلا ووفاء لمجده الحضاري. لشعب أدركنا أوج مواجعه الكبرى، وآمنا بإنسانه الناهض من تحت ركام الاضطهاد والاحتلال والإرهاب، واستوعبنا مقام أنينه المأساوي حين طرب له الخصوم، وبكينا لبكائه في لحظات يتمه ونزوحه.

بالجملة لا في الجمل، يبدو العراق يتحرك على إيقاع تفاؤلية ناذرة. فالخط البياني للأمل في العراق يكاد يفوق شعوبا عربية كثيرة. وطبيعي أن يتربصوا بالعراق، لأنهم في هذه الحرب الحضارية يخشون من صندوق باندورا الذي طهر من الشرور بماء الفرات، فامتلأ بأمل زلال. لا تصبوا طاقتكم السلبية على العراق، فقط دعوه يبني جسور التفاؤلية الحضارية من جديد.

التقط هذا الجيل من العراقيين الإشارة الكونية للالتفاف على ظلاله المزمنة، هذا الانتصار على العوائق النفسية بالمعنى اليونغي للعبارة يتراءى جليا في ملامح جيل قرر أن ينتصر للحياة الحضارية بعد أن خاض معركة التحرر وانتصر على الهمجية. فمن تحت رماد ما يبدو فوضى وتناقضات في المشهد، أحدس ملامح تغيير حقيقي نحو مستقبل أفضل.

اقرأ “عراق” بالمقلوب، فستجد فعل “قارع”، وها هو ذا يقارع الحصار والنكبات برصيد جيل جديد من الأمل، ويبلي في ذلك البلاء الحسن.

https://anbaaexpress.ma/5u4l3

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى