شهدت قاعات السينما في لندن، في الفترة الأخيرة، موسم الفيلم الإيراني. عُرض الفيلم الأول It Was Just an Accident «لقد كان مجرد حادث» للمخرج جعفر بناهي، الذي اعتبره النقاد واحدًا من أفضل أفلام عام 2025، إذ حاز الفيلم على جائزة «السعفة الذهبية» في مهرجان كان السينمائي.
يفتتح الفيلم بمشهد إقبال وهو يقود سيارته في ظلام دامس، ومعه زوجته وابنتهما الصغيرة، فإذا به يدهس كلبًا.
تكتفي زوجته بهزّ كتفها بلا مبالاة، إذ تعتبر الحادث مجرد عائق بسيط، لكن ابنتهما تُصرّ على تفقد الكلب ومساعدته لأن الحيوانات تحس مثل البشر. يواصل إقبال طريقه إلى أن يواجه تحديًا أكبر وأخطر.
عندما يتوقف أمام ورشة لتصليح سيارته، يسمعه الميكانيكي وهو يتحدث على الهاتف، ويصل الميكانيكي وحيد إلى استنتاج مقلق ومخيف؛ فالصوت مألوف، وكذلك صوت ساق إقبال الاصطناعية. فهل هو الجلاد الذي عذّبه خلال الفترة التي كان فيها سجينًا سياسيًا؟ رغم أن وحيد لم يكن يراه لأنه كان معصوب العينين، لكنه كان يسمعه باستمرار.
في اليوم التالي، يتعقب وحيد المشتبه به، ويختطفه ويضعه في الجزء الخلفي من شاحنة صغيرة، ليقوده إلى الصحراء حيث يحاول دفنه حيًا، ثم يتراجع عن قراره أمام إنكارات الرجل. فهو يريد الانتظار والتحقق من الهوية. يعيده معصوب العينين إلى الجزء الخلفي من الشاحنة، ويجوب المدينة بحثًا عن ضحايا إقبال.
شيفا، مصوّرة فوتوغرافية، بصدد تصوير عروسين قبل حفل زفافهما. يقاطعها وحيد ليخبرها أن معذّبها في شاحنته، لكنها كانت معصوبة العينين هي الأخرى أثناء احتجازها.
العروس غولي أيضًا تعرضت للتعذيب والاغتصاب على يد الرجل، وكذلك حميد الذي يعمل في صيدلية محلية، ليدور بينهم نقاش محموم حول ما يجب فعله.
يعمّ الارتباك حول ما إذا كان المخطوف هو بالفعل معذّبهم، وغياب اليقين يطيل عملية اتخاذ القرار بشأن ما يجب فعله بالرجل.
ماذا يفعلون مع رجل يعتقدون، ولكن لا يمكنهم التأكد، أنه مصدر كل تلك الوحشية التي سُلّطت عليهم؟ ما الذي يلزم للتخلص مما تسميه شيفا «الصوت الذي لا يمكن إسكاتُه» لأنه «يرن في رأسي»؟ هل ما حدث لهم نهر لا يمكن عبوره أبدًا؟
تصبح الشاحنة والصحراء مساحات للمحاسبة، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، مع العقاب والانتقام. تعمل كمناطق للتفكير، حيث تطلق الصدام بين الضمير من جهة والرغبة في الانتقام من جهة أخرى. ما هي النقطة الفاصلة التي يتحول فيها الانتقام إلى جريمة؟ وما الذي يميّز عندئذ المظلوم عن الظالم؟
يوضّح الصراع بين حميد وشيفا كيف أن الأنظمة القاسية تعمّق الانقسامات بين ضحاياها حتى بعد انتهاء فترة السجن. كما يغذّي التاريخ الشخصي لهذه المجموعة الصراع الأخلاقي الذي يعاني منه ضحايا القمع من طرف الدولة.
هل يمكن للانتقام أن يحقق العدالة؟ أين الضمان أن النظام لن يلاحق المنتقمين؟ وهل يجب مواجهة العنف بالعنف؟ وفي أي نقطة تتلاشى الحدود الأخلاقية؟ وهل المغفرة تهرب من المسؤولية، أم هي الطريق الوحيد للمضي قدمًا؟
تقف غولي غاضبة، تطالب بأن تتحقق العدالة لها فورًا، ويشاركها حميد رغبتها اليائسة في الإنصاف. أما شيفا، التي تتعرف على رائحة الرجل لكنها لا تزال في حيرة من أمرها، فربما كان الرجل مجبرًا على تنفيذ الأوامر؟ وتستمر أطول فترة ممكنة في الاتفاق على رأي واحد.
نقاش سمته التوتر والغضب وأسئلة تؤرق وحيد والمعتقلين السابقين في فيلم لا يهدأ إيقاعه.

الفيلم لا يصل إلى استنتاجات حاسمة ونهائية، لكن الأمر الواضح هو أنه لا يمكن للمرء أبدًا الفرار من مضاعفات أفعاله، سواء تمثلت في الفساد والرشوة، كما بدا من تصرفات أفراد شرطة المرور وعامل محطة الوقود في الفيلم، أو ممارسة التعذيب كما فعل إقبال.
في وقت لاحق، يعود وحيد إلى حياته العادية مع والدته وشقيقته، وتدخل سيارة بيضاء، مشابهة لسيارة إقبال، المنطقة، بينما يتحرك وحيد في أرجاء المنزل ليستخرج شيئًا. يزداد صوت ساق إقبال الاصطناعية المألوف في أذنيه، ويقف وحيد منصتًا.
في كل مكان هناك خوف، وفي كل مكان هناك صمت. ومع ذلك، في قصة الانتقام اللافتة والمفاجئة لبناهي، ينتهي وحيد في مكان لم نتوقعه أبدًا، خارج مستشفى، بعد أن نقل وحيد زوجة الجلاد وهي في حالة مخاض، لتنجب طفلًا، وليدفع هو فاتورة المستشفى.
المشهد النهائي غامض ويثير القلق، إذ يمكن أن يكون الانتقام أمرًا معقدًا، وكذلك محاولة النسيان والمضي قدمًا، لأن الصدمة النفسية الناجمة عن التعرض للتعذيب أمر بالغ التعقيد.
الفيلم الثاني هو «رگبار»، أو «زخّات المطر» (Downpour)، من إخراج بهرام بيضايي، أُنتج عام 1972 في إيران ما قبل الثورة.
فيلم متميز في السينما الإيرانية، وغالبًا ما يُنسب إليه تمهيد الطريق لموجة جديدة في السينما الإيرانية.
تميّز إخراج بيضايي بأسلوب بسيط لكنه فعّال، مستخدمًا التصوير بالأبيض والأسود لتعزيز عمق السرد القصصي، مما يسمح للجمهور بالتركيز على الصراعات الداخلية للشخصيات وديناميكية العلاقات الاجتماعية.
يحيك فيلم «زخّات المطر» نسيجًا غنيًا يتناول قصة حب ناشئة بين معلم جديد في مدرسة للبنين، هو السيد حكمتي، وعاطفه، شقيقة أحد تلامذته، في الجنوب الفقير للعاصمة طهران. يصل المعلم إلى المدينة مع كل ممتلكاته محمّلة على عربة.
يراقبه الجيران بحذر، ويراقبه تلاميذ المدرسة بسخرية. في أول يوم لمباشرة عمله، يعمد الأولاد إلى الشغب في الفصل متحدّين سلطته. في الأثناء، يشحذ حكمتي قلم الرصاص وهو ينظر إليهم، ثم يأمر أخ عاطفه بمغادرة الفصل.
يتجسس الأولاد على عاطفه وهي تشكو للسيد حكمتي من معاقبته لأخيها، وهو مشهد يفسره الأولاد بابتسامات دالة على فهم ما يدور بين الاثنين من ألفة وانجذاب.
وسرعان ما تتحول هذه التكهنات من قبل التلاميذ إلى شائعة في الحي، وتحدث تبادلات ساخرة بين زملاء حكمتي من المعلمين. وبالتالي، قبل أن يعترف هو وعاطفه بحبهما لبعضهما البعض، تكون هذه المشاعر واضحة بالفعل للجميع، وكذلك للمشاهد.
في الوقت نفسه، عاطفه وعائلتها مدينة لرجل الحي القوي، الجزار الضخم ذي الشاربين الطويلين، رحيم، الذي يساعدهم بطرق مختلفة على أمل الفوز بعاطفه. لكنها لا تهتم بذلك، ولا تتوقع أن تُسحب من قدميها.
من خلال عاطفه، وهي حالة غير معتادة في سياق السينما الإيرانية آنذاك لكونها شابة مستقلة تعمل، مستغلة وظيفتها كخياطة لدعم ورعاية شقيقها ووالدتها المريضة، قدّم بيضايي أول شخصية نسائية قوية ومميزة. إذ كانت أفلامه محظورة لفترة طويلة في إيران بسبب تصويرها للنساء غير المحجبات.
كما تحمل شخصية الجزار الكثير من الرمزية؛ فهو بالنسبة للحي مثل الشرطة السرية بالنسبة للبلد: قوي الجسد، متغطرس، ومنتقم، يخافه الجميع.

يجري لقاء حكمتي وعاطفه الأول في حديقة عامة، ويبدأ وهما جالسان على مقعدين منفصلين، ثم على مقعد واحد. وأخيرًا، تبتعد الكاميرا لتكشف أنهما ليسا وحدهما بأي شكل من الأشكال، فجميع التلاميذ مختبئون بين فروع الأشجار خلفهما، مستمعين لمدرسهم وهو يعبّر عن حبه لعاطفه.
وبينما تتطور علاقتهما السرية، يهمس الكبار كما الصغار خلف ظهره، بينما يحدقون في وجهه. يُجبر حكمتي وعاطفه على إنكار انجذابهما لبعضهما البعض وقمع مشاعرهما، لأن عليهما التعامل مع مجتمع يطالب بالامتثال.
وترمز النظرات المتطفلة، والنميمة حول البطلين من قِبل زملاء السيد حكمتي من المعلمين، والأطفال، وسكان المدينة، إلى عيون الدولة التي تراقب المجتمع دون هوادة.
بعد تعرض حكمتي للضرب وهو ثمل في مشاجرة مع رحيم، يعترف كل منهما للآخر، باكيًا، بحبه لعاطفه. ويستعيد حكمتي آخر شظية من كرامته: نظاراته التي لم تنكسر وهي ملقاة على الأرض، وتمثل عزمه على العودة لتعليم طلابه.
يبسط حكمتي سلطته في الفصل، ويكسب احترام التلاميذ ومحبتهم، وتسمح عزيمته على التقدم والاستمرار بكسب ثقة وتعاطف الأطفال وعائلاتهم، واكتشاف حياتهم الفقيرة ولكن المشرفة.
يتألق حكمتي أيضًا حين يزمع على تحويل مساحة مهملة في المدرسة إلى قاعة يطلق فيها التلاميذ العنان لمواهبهم في التمثيل، ويقدمون إنتاجًا مسرحيًا مميزًا. تُنظم مسابقة لأفضل شخصية في المدينة، يتوقع المدير وكذلك رحيم الفوز بها، لكن التلاميذ يختارون حكمتي، الذي يقع على الأرض قبل صعود الركح ليصبح بطل المدينة والفيلم أيضًا.
ورغم كل ذلك، يجد حكمتي نفسه في النهاية يُنقل إلى مدرسة أخرى، مُرغمًا على مغادرة المدينة التي بدأ يحبها ولا يريد، عكس عاطفه، تركها.
الصراع بين رجلين من أجل امرأة ليس هو ما ينهي إقامته بالمدينة، بل نظرة الجميع إلى حكمتي على أنه يمثل تهديدًا بسبب إرادته القوية، وشعبيته، وعدم استعداده للتأقلم مع بيروقراطية المدرسة التي ترمز للدولة. فقد أراد المدير أن يتزوج حكمتي ابنته، لكن حكمتي لم يستطع تلبية رغبة المدير.
يُفهم المشاهد بعمق أن حكمتي وعاطفه لم يكن مقدرًا لهما أن يكونا معًا، لأن إرادة المجتمع والنظام تظل الأقوى.
في المشهد الأخير، يغادر حكمتي وهو يجر عربته التي جاء بها، ويلتفت إلى الوراء منتظرًا، هو والمشاهد، أن تغير عاطفه رأيها وتجري خلفه في آخر لحظة.
بعد مشاهدة الفيلم، ظللت أنا وصديقتي نناقش معانيه الكثيرة التي تتجاوز حدود قصص الحب العادية، وتُعد، في نظري، نموذجًا لما تتميز به السينما الإيرانية من سرد ثري، وغوص في الشخصية، وعمق في طرح قضايا المجتمع المعقدة.
فالسينما الإيرانية ليست تجارية، ورغم أنها انطلقت في أوائل القرن العشرين، إلا أنها لم تبدأ في التطور الحقيقي لتتميز وتحظى باعتراف دولي إلا بعد الثورة الإيرانية عام 1979. فقد جلبت الثورة معها الرقابة والقيود على التعبير الفني، لكنها أيضًا شجعت على التجريب الفني.
إذ يبدع صانعو الأفلام الإيرانيون في إنتاج أعمال تجمع بين الابتكار والتأثير العميق، سواء تناولت أفلامهم قضايا العدالة الاجتماعية، أو ديناميكيات الأسرة، أو الحالة الإنسانية. كما تمكنوا من تطوير أسلوب بصري فريد، مع التركيز على اللقطات الطويلة، والأماكن البسيطة، والأداء الطبيعي الذي يتيح للمشاهد التواصل العميق مع الشخصيات.
على مر السنين، اكتسبت السينما الإيرانية اعترافًا عالميًا، وفازت أفلام عدة بجوائز مرموقة في مهرجانات سينمائية مثل كان، والبندقية، وبرلين، بالإضافة إلى الترشيحات للفوز بجوائز الأوسكار. واليوم، يواصل صانعو الأفلام الإيرانيون المعاصرون دفع الحدود، متفاعلين مع الجماهير المحلية والعالمية.




