من البديهيات أن يشكل التاريخ مرجعًا أساسيًا للوقوف على حاضر الأمم والشعوب، ولِفهم منظومة القيم والمبادئ وأنماط التفكير في مداخلاته ومخرجاته لمجتمع ما، لا بد من الاعتماد على السيرورة التاريخية التي تكشف عن التحولات والتغيرات التي تجتازها تجمعات بشرية في إطار جغرافي محدد، مع التركيز على درجة ونوعية الانتقال من حقبة زمنية إلى أخرى.
في سياق تلك السيرورة يتولد وعي معين ليفرّخ مجموعة من القيم تترسخ في ما يسمى بالذاكرة الجماعية. ومن النتائج الطبيعية لتلك المسارات المختلفة في حياة الأمم أن نجد تباينات في سلوكيات المجتمعات كما هو الحال بالنسبة لأنماط التفكير عندها.
هناك مجتمعات تحتكم إلى العقل والمنطق بسبب تلك التراكمات التي تشكلت تدريجيًا عبر قرون خلت، لتعكس حقيقة ما اجتازته من مراحل في بناء منظومة فكرية قائمة على العلم والمعرفة، وتظهر اتزانًا في تعاملها مع حاضرها على ضوء ذلك المخزون الموروث عبر الأجيال المتعاقبة.
وهناك أيضًا مجتمعات أخرى تراهن في مستقبلها على ما يخبئه لها قدرها، تؤمن بالغيبيات، ويطغى على تفكيرها الخمول والاتكالية وغياب تام لما يسمى بالاعتماد على الذات.
هذا النمط هو الآخر ليس سوى نتاجًا لتراكمات سلبية تجمعت كذلك عبر قرون بفعل التقوقع والانغلاق في سياق مغلوط وفهم سيئ للدين.
وهناك مجتمعات من صنف ثالث وجدت نفسها على قارعة التاريخ تائهة وخارجة عن السياق الزمني، ولم يستقر حالها أبدًا على وضع حتى يتسنى لها تشكيل نواة لفكر متجانس في حدوده الدنيا.
من تجليات هذه الآفة ظهور ما يعرف باليُتم أو الاغتراب الفكري بمعنى أن أولئك الضحايا لهذا التهميش قد يكبر فيهم الإحساس بالمظلومية، وقد ينتج عن ذلك وعي مزيف يسيء أكثر مما ينفع ويتحول إلى خطر محدق على الذات نفسها وعلى المجموعة البشرية لتلك الرقعة الجغرافية وعلى شعوب الجوار.
هذه الحالة على ندرتها في التاريخ الحديث للبشرية قد نجدها اليوم تعشش في مخيلة من يتولى الحكم في الجزائر.
ولفهم ما حدث ويحدث من سلوكيات حكام الجزائر التي هي أبعد من أن تكون منسجمة مع نفسها قبل انسجامها مع الآخر، لا بد من العودة إلى الضوابط التاريخية على المستوى الفكري والثقافي التي ساهمت في تكوين العقلية الجزائرية الراهنة والقائمة على الانتكاسات والاصطدامات وعلى البحث عن كينونة مفقودة من خلال تشريع الأبواب لصراع لا يريدونه أن يتوقف.
إذن، ما هي هذه التوابل التي أفرزت لنا هذه العقلية التي يستند عليها الحاكم الجزائري في تعاطيه مع الخارج؟
1- تاريخ الجزائر تاريخ مرقع، بمعنى أن الحقب التي تعاقبت على تلك الرقعة الجغرافية كأنها حقب معزولة عن بعضها البعض، غير مترابطة ولا متماسكة. الانتقال من مرحلة إلى أخرى لم يكن سلسًا، بل أحدث انكسارًا وتشظيًا، وقد يؤدي ذلك إلى تشرذم فكري مع مواجهة صعوبة كبيرة في لملمة الشظايا لتكوين فكر يفضي إلى خلق شخصية متوازنة ومستقلة.
2- البحث عن الذات يصبح قضية مستعصية لغياب ترابطات بين أجناس متفاوتة، وليس في أصولها ما يساعد على الإحساس بالانتماء.
هذا النوع من التضارب أدى إلى انقسامات حادة داخل مكونات المجموعة البشرية، سواء الأصلية منها كالأمازيغ القبايل، أو تلك التي جاءت مع موجات الاستيطان التي ضربت ما يسمى حاليًا بالجزائر في عهد العثمانيين وفرنسا.
ومما زاد من عمق الإشكالية أن الاستيطان بنوعيه عمر لقرون، وأصبح من غير الوارد التمييز بين من هو أصلي وبين من فرضه أو أنجبه ذلك الاستيطان، مما قد يفتح المجال إلى تشويه في البنية الديمغرافية.
وقد ترتب عن ذلك ما هو معروف عن الجزائريين بأزمة الهوية، باستثناء القبايل الذين ظلوا إلى يومنا هذا متمسكين بأصولهم وهويتهم الأمازيغية من دون أن تنال منهم أيديولوجية القومجيين التي استقدمها الرئيس الهواري بومدين من المشرق.
3- في ظل هذا التشرذم مع وجود ثقوب أصلًا في النسيج الاجتماعي، لم يعد الواقع مسعفًا على إيجاد أرضية مشتركة للبناء عليها في إعداد عقيدة يفترض أن تلتف حولها جميع مكونات المجتمع الجزائري.
ومما زاد الطين بلة أن كل من تعاقب على الحكم في الجزائر لم يستطيعوا رتْق ما خلفه الاستيطان من ثقوب. وبقيت العقيدة المشبوهة التي أرادوا أن يبنوا عليها وحدتهم المفقودة هي الاستناد على عقيدة العداء للمغرب.
4- بدا واضحًا من الناحية التاريخية أن الجزائر لم تكن موجودة، بل كانت عبارة عن ممالك أمازيغية مثل المملكة النوميدية. وكان التاريخ شاهدًا على فترات من الاحتلال من الفينيقيين والرومان والوندال والبيزنطيين، ليأتي الفتح الإسلامي فيما بعد الذي أدى إلى ظهور دويلات مستقلة كالدولة الرستمية والدولة الحمادية، مرورًا بدويلات متناحرة في العصر الوسيط قبل أن تستنجد ببروس ويدخل العثمانيون فتتحول تلك الأرض إلى إيالة ذات سيادة قوية في المتوسط. ومن دون أن ننسى أنه قبيل الحقبة العثمانية كانت تلمسان مركز ثقل تابع لدولة المرينيين في المغرب.
ولم يكن عبر هذا التاريخ الطويل ما يشير إلى وجود شخصية جزائرية أو إحساس بالانتماء إلى تلك الأرض إلا في الحقبة الاستعمارية الفرنسية التي خلقت كيانًا أطلقت عليه اسم الجزائر، وأضافت إليه عرقيات دخيلة زادت من تشويه التركيبة الديمغرافية، وبلغ التنافر حدًا تحول في أوقات قادمة إلى تناحر.
5- من تجليات هذه الخلطة الديمغرافية متعددة الأصول انتفاء عنصر الانتماء. وعوض أن تصبح الشخصية الجزائرية بحاجة لعقيدة تجمع أشلاءها، تم استخدام القوة لفرض وحدة مزعومة، وأدخلت البلاد في مسلسل من العدوانية وتصفية الحسابات.
وقد شهدت العشرية السوداء ضرب أطياف الشعب الجزائري ببعضها، وكانت أجهزة الدولة هي المدبر لإذكاء نار الفتنة بأقنعة مستعارة. ولم تقف الدولة عند هذا الحد، بل تجاوزته إلى تصفية حسابات شبيهة بما تفعل الكلبة بأولادها.
ومنذ ما يسمى باستقلال الجزائر في ستينيات القرن الماضي وحالات الاغتيالات والمحاكمات الصورية لم تتوقف إلى اليوم، وطالت قيادات من جبهة التحرير وجنرالات ورؤساء، أبرزهم محمد بوضياف.
6- عقيدة العدوانية لم تقتصر على الداخل، بل طغت كذلك على تعامل حكام الجزائر مع الخارج. فالإبن غير الشرعي، بفعل ما فيه من نواقص، يهاجم الجوار دفاعًا عن نفسه وإضفاءً لشرعية على وجوده.
والأخطاء التاريخية التي ارتُكبت في حق الجوار، والتي انتهت بولادة كيان تعتبره فرنسا محافظات لما وراء البحار، هي التي دفعت حكام الجزائر إلى محاولة زعزعة استقرار دول تخشى مطالبتها مستقبلًا بالأراضي التي اقتطعتها، والتي يعتبرها النظام بأنها حدود موروثة عن الاستعمار ولا يجوز المساس بها.
7- هذا التعامل المتعجرف يعكس انعدام الثقة في النفس والمستقبل، ويظهر في تصريحات الحاكم الجزائري مثل: “القوة الضاربة”، و”لا أحد يضغط على الجزائر”، و”الجميع يستهدف الجزائر”، وكلها تُستعمل لتوجيه الأنظار نحو “عدو خارجي” يصنعه النظام لخلق جبهة داخلية وهمية.
على ضوء كل هذه المكونات التي تؤثر على سيكولوجية صانع القرار، يتضح أن النظام الجزائري لا يؤمن بثقافة التوافق، ولا باحترام الالتزامات. والتاريخ الحديث للعلاقات المغربية الجزائرية خير شاهد.
ما يمكن استخلاصه هو أن حل الأزمة لا يتم فقط عبر سردية تقليدية لتحديد المسؤوليات، بل عبر صدق النوايا وتصحيح الأخطاء التاريخية، وأبرزها حل مشكل الحدود في إطار اتفاق تتوافق عليه الدول المعنية لضمان الاستقرار الإقليمي.
فالذهاب إلى الطاولة بنية الالتفاف أو الهروب من الضغوط لم يعد مقبولًا، بل يجب أن يكون التزامًا حقيقيًا يفرزه حوار جاد تنتظره الشعوب المغاربية كالماء الزلال.




