يقدّم الباحث المغربي المتخصص في قضايا الإسلام السياسي والتطرف، محمد بوشيخي، مقاربة تحليلية معمّقة لمسار تشكّل السلفية وتحوّلاتها وصولاً إلى السلفية الجهادية، مستنداً إلى خلفيته الأكاديمية في الدراسات السياسية وتراكماته البحثية حول الدين والحداثة والصراعات الجيوسياسية.
يرى بوشيخي أن السلفية لم تكن يوماً كتلة فكرية صلبة، بل ظاهرة متحركة تفرعت إلى تيارات متعددة بفعل التاريخ والاجتماع والسياسة، ما يجعل فهمها رهيناً بتتبع تشكلاتها ومفاهيمها لا بالبحث عن تعريف ثابت لها.
ومن هذا المنطلق، يمهّد الباحث لدراسته باستحضار أبرز الإشكالات المؤسسة في التراث السني، مثل الخلاف التاريخي بين المحدثين والفقهاء ومحطات تبلور المذهب الحنبلي، وصولاً إلى النزعة التجديدية لابن تيمية التي جرى إفراغها من سياقها الأصلي بفعل القراءة الانتقائية لتلامذته.
ويبرز بوشيخي التحولات التي عرفتها السلفية منذ القرون المتأخرة، بدءاً من صعود المحدثين الهنود ودورهم في التقاطع العقدي مع الدعوة النجدية، وهو تقاطع ساهم في تعزيز نفوذ مدرسة أهل الحديث داخل الفضاء الديني السعودي الذي كان تحت تأثير الوهابية.
هذا التفاعل أتاح لنخبة من المحدثين العودة إلى قلب العالم الإسلامي بعد قرون من هيمنة الفقه التقليدي.
ويرصد الباحث نشأة ما يسميه بـ “المحدثين الإحيائيين”، وهي مجموعة أعادت إحياء أصول حديثية اندثرت تحت ثقل المذاهب الفقهية والسلطة السياسية، من خلال منح النصوص الحديثية سلطة تكاد توازي القرآن.
ويعد كل من محمد الدهلوي والألباني أبرز وجوه هذا المسار الذي زعزع ثوابت السلفية التقليدية، خصوصاً في النقاش المتعلق بحجية خبر الآحاد وقدرته على نسخ النص القرآني.
في موازاة ذلك، يتوقف بوشيخي عند دور سيد قطب في إدخال مفهوم “المثقف التصحيحي”، الذي أعاد صياغة الفكر الجهادي انطلاقاً من قاعدة مركزية قوامها التلازم بين البناء النظري والحركي.
فالأفكار القطبية أعادت تعريف العلاقة بين الشريعة والواقع من خلال مفاهيم مثل “الجاهلية” و“الحاكمية”، وهو ما سيجد صداه داخل التيارات السلفية الجديدة.
ويُظهر التحليل أن فكر الألباني تقاطع في عدد من محاوره مع الرؤية القطبية، سواء في توصيف الواقع أو في تصوّر التغيير، إذ أعاد إنتاج مفاهيم قطب بمنظور حديثي صرف، وجعل “الطائفة المنصورة” مقابلاً سلفياً لمفهوم “الجيل القرآني الفريد”.
هذا التقاطع أتاح للجهاديين تبني منهجية حديثية تمنحهم مشروعية دينية افتقدوها سابقاً، فاندفعوا إلى استلهام الأدبيات السلفية والانفتاح على التراث النجدي والألباني.
وهكذا نشأت السلفية الجهادية بوصفها صيغة هجينة تجمع بين الحركية القطبية والتشدد الحديثي، بعد أن تحولت النصوص السلفية إلى مرجعية مركزية داخل المدونة الجهادية.
غير أن هذا التهجين لم يلغِ التوترات الداخلية التي تمظهرت في صراع دائم بين الزعامة “العلمية” المتأثرة بالألباني والقيادة “الميدانية” المتشبعة بالقطبية، ما أدى إلى تعميق القطيعة مع الشرعية الفقهية التقليدية وإعلاء شأن “المجاهد الفقيه” على حساب العلماء.
وبذلك يخلص بوشيخي إلى أن السلفية الجهادية ليست امتداداً متجانساً لتراث واحد، بل نتيجة تراكمات تاريخية وفكرية متشابكة، ساهمت فيها مدارس متعددة أنتجت تصوراً جديداً للشرعية الدينية، يقوم على الانتقاء والقطيعة أكثر مما يقوم على الاستمرارية أو الانسجام النصي.





