الشأن الإسبانيتقاريرسياسة
أخر الأخبار

مدريد أمام مغرب واثق.. قلق إسباني من إعادة رسم موازين القوة جنوبا وشمالا

ترى قطاعات من النخبة الإسبانية أن الرباط، بعد ترسيخ موقعها دوليًا في ملف الصحراء، باتت تتحرك بمنطق “ما بعد الحسم”، أي الانتقال من الدفاع عن السيادة جنوبًا إلى إعادة ترتيب الفضاءات الحيوية شمالًا وغربًا..

تشهد الأوساط السياسية والإعلامية في إسبانيا حالة تململ متصاعدة إزاء ما ينظر إليه باعتباره تحوّلًا نوعيًا في السلوك الإقليمي المغربي، تحول غذته التطورات الأخيرة المرتبطة بملف الصحراء المغربية، وأعاد إلى الواجهة أسئلة قديمة حول الجغرافيا والسيادة وحدود النفوذ في غرب المتوسط والأطلسي.

هذا القلق لم يعد مقتصرا على مراكز البحث أو دوائر التحليل الأكاديمي، بل تسلل بقوة إلى صفحات الصحافة الإسبانية، خصوصًا في المناطق الأكثر حساسية في الوعي الاستراتيجي لمدريد، مثل سبتة ومليلية وجزر الكناري، حيث تقرأ التحركات المغربية بعين الشك والحذر، لا باعتبارها إجراءات تقنية أو دبلوماسية معزولة، بل كجزء من مسار أوسع يعكس ثقة سياسية متنامية.

في هذا السياق، ترى قطاعات من النخبة الإسبانية أن الرباط، بعد ترسيخ موقعها دوليًا في ملف الصحراء، باتت تتحرك بمنطق “ما بعد الحسم”، أي الانتقال من الدفاع عن السيادة جنوبًا إلى إعادة ترتيب الفضاءات الحيوية شمالًا وغربًا.

وتذهب بعض التحليلات إلى أن الخطاب المغربي الحالي لم يعد يكتفي بتثبيت المكتسبات، بل يلوّح بإعادة فتح ملفات تعتبرها مدريد مغلقة أو غير قابلة للنقاش.

وتتوقف الصحافة الإسبانية عند ما تصفه بتحول في النبرة داخل الخطاب الرسمي والإعلامي المغربي، ترجم إلى إحياء مطالب تاريخية مرتبطة بسبتة ومليلية، والجزر والصخور الخاضعة للسيادة الإسبانية، إضافة إلى توسيع النقاش حول المياه الإقليمية المحيطة بجزر الكناري، في صيغة توحي بأن الرباط ترى هذه الملفات مترابطة ضمن رؤية جيوسياسية واحدة.

غير أن أكثر مصادر القلق الإسباني يتمثل في البعد البحري. فالقوانين التي صادق عليها البرلمان المغربي في السنوات الأخيرة لترسيم حدوده البحرية، بما يشمل السواحل المحاذية للصحراء المغربية، اعتُبرت في مدريد خطوة أحادية ذات أبعاد استراتيجية، لما تحمله من انعكاسات مباشرة على المجال البحري لجزر الكناري.

وتخشى إسبانيا من أن يؤدي تفعيل هذا الترسيم عمليًا إلى تضييق الخناق الجغرافي على الأرخبيل، بما يحمله ذلك من تداعيات اقتصادية وأمنية بعيدة المدى.

ويتعزز هذا القلق مع بروز ملف “جبل تروبيك” البحري، ذلك الجبل البركاني الغارق الغني بالمعادن النادرة التي تُعد رهانًا استراتيجيًا في اقتصاد المستقبل، من الطاقات المتجددة إلى الصناعات التكنولوجية المتقدمة.

وفي نظر مدريد، لا يتعلق الأمر بخلاف تقني حول الحدود البحرية، بل بمسألة سيادة وأمن قومي في منطقة تتقاطع فيها المصالح الاقتصادية مع الحسابات الجيوسياسية.

ولا يقتصر التوتر على البحر وحده. فالمجال الجوي للصحراء المغربية يظل بدوره نقطة احتكاك صامتة. فرغم انسحاب إسبانيا الإداري من الإقليم سنة 1976، فإنها ما تزال، بتفويض أممي، تشرف على تدبير الحركة الجوية انطلاقًا من جزر الكناري.

وضعٌ تعتبره مدريد عنصر استقرار تقني وأمني، بينما تنظر إليه الرباط باعتباره امتدادًا غير مبرر لإرث ما بعد الاستعمار، وتسعى منذ سنوات إلى مراجعته.

وفي الكواليس الإسبانية، وفق ذات التقارير يعاد تقييم مواقف سابقة أبدت فيها مدريد استعدادًا لفتح نقاش حول هذا الملف، إذ ينظر إليها اليوم باعتبارها تنازلات سياسية غير محسوبة، شجعت وفق هذا المنطق  على تصعيد المطالب المغربية بدل احتوائها.

وتتضاعف الهواجس مع تقارير عن أنشطة عسكرية ومناورات بحرية مغربية قرب جزر الكناري، تقرأ في بعض الدوائر الإسبانية كرسائل سياسية بقدر ما هي تدريبات روتينية.

مخاوف لا تتعلق فقط بالأمن العسكري، بل تشمل أيضًا البعد البيئي في منطقة تعد من أكثر المجالات البحرية حساسية في التقاء المتوسط بالأطلسي.

و تكشف القراءة الإسبانية للمشهد عن معادلة معقدة كيف يمكن لمدريد أن تحافظ على علاقات مستقرة مع جار جنوبي يزداد قوة وثقة، دون المساس بثوابتها السيادية، ودون إرسال إشارات ضعف قد تُفسَّر في الرباط على أنها قابلية لمزيد من الضغط؟

سؤال بات يتردد بقوة في دوائر القرار الإسبانية، حيث لم تعد التحركات المغربية تقرأ كملفات منفصلة، بل كأجزاء من رؤية استراتيجية شاملة تعيد تشكيل موازين القوة في المنطقة، وتفرض على إسبانيا إعادة التفكير في أدواتها التقليدية لإدارة الجوار الجنوبي.

ورغم انعقاد أشغال اللجنة العليا المشتركة بين المغرب وإسبانيا وما رافقها من رسائل رسمية تؤكد متانة الشراكة الثنائية، فإن ذلك لم ينجح في تبديد منسوب التوجس داخل البنية الإعلامية الإسبانية ولا لدى قطاعات من النخبة السياسية، خاصة في صفوف المعارضة.

ففي مدريد، ينظر إلى مخرجات اللجنة باعتبارها إطارا تقنيًا لإدارة العلاقة، لا ضمانة كافية لطمأنة الهواجس الاستراتيجية العميقة المرتبطة بالبحر والمجال الجوي والفضاءات السيادية الحساسة.

ويعكس هذا التباين بين الخطاب الرسمي ومزاج النخب حجم الفجوة القائمة في قراءة التحولات الجارية، حيث ترى الرباط في اللجنة محطة لتكريس منطق الندية وتطبيع مرحلة جديدة، بينما تتعامل معها أطراف إسبانية مؤثرة كآلية مؤقتة لاحتواء قلق لم يحسم بعد.

https://anbaaexpress.ma/pbl6r

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى