تعيش العلاقات المغربية الصينية مرحلة جديدة تتّسم بتسارع في وتيرة التنسيق السياسي وتنامٍ في الحضور الاقتصادي، إلا أنّ التطورات الأخيرة سلطت الضوء على تحول أكثر عمقاً في طريقة تعاطي بكين مع ملف الصحراء، الذي يُعد واحداً من أكثر الملفات حساسية في شمال إفريقيا.
فعقب الزيارة التي قام بها وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة إلى العاصمة الصينية، تزايدت إشارات التغيير في الخطاب الإعلامي والخبراتي الصيني، إذ اعتبر محللون أن بكين باتت تُدرك بصورة أوضح الوزن الجيوسياسي للمغرب ومكانته المحورية في المنطقة.
وتوقف تقرير صادر عن منصة The China-Global South Project عند هذا التفاعل، مشيراً إلى أن تغطية زيارة بوريطة جاءت بعد أسابيع فقط من امتناع الصين عن التصويت على القرار الأممي 2797 الداعم للمبادرة المغربية للحكم الذاتي، وهو موقف لم يعد يُقرأ في المغرب باعتباره حياداً تقليدياً بقدر ما يعكس بداية مراجعة هادئة في مقاربة بكين للنزاع.
منذ الزيارة التاريخية للملك محمد السادس إلى الصين سنة 2016، شهدت الشراكة الثنائية توسعاً لافتاً في مجالات الصناعة والتجارة والبنية التحتية، قبل أن يعزز انضمام المغرب سنة 2017 إلى مبادرة “الحزام والطريق” تدفق الاستثمارات الصينية التي تضاعفت ثلاث مرات بين 2016 و2023.
إلا أنّ محطة 19 سبتمبر 2025 – تاريخ زيارة بوريطة – بدت مختلفة في مضمونها، فقد شملت توقيع مذكرة تفاهم تتعلق بإحداث “آلية الحوار الاستراتيجي”، وهي خطوة فُهمت في الأوساط الدبلوماسية على أنها تمهيد لارتقاء العلاقات إلى مستوى سياسي أكثر تنسيقاً.
الصيغة الرسمية للبيان المشترك، التي تحدثت عن “قضايا إقليمية ودولية ذات اهتمام مشترك”، اعتبرها عدد من الخبراء إشارة واضحة إلى دخول قضية الصحراء ضمن نطاق التفاهمات الدبلوماسية، خصوصاً بعد سنوات من تمسك الصين بموقف محايد.
ويرى محللون مغاربة أن امتناع بكين عن التصويت في مجلس الأمن لم يكن حدثاً عادياً، بل إشارة دبلوماسية محسوبة بعناية، تضاف إلى مؤشرات أخرى مثل استثناء “الجمهورية الصحراوية المزعومة” من قمة الصين-إفريقيا لعام 2024، ودعم الصين لقرارات سابقة اتُّخذت في مجلس الأمن وكانت أقرب للموقف المغربي.
على المستوى الاقتصادي، تضاعفت وتيرة الحضور الصيني في المغرب، خاصة في القطاعات ذات الأهمية الاستراتيجية مثل الطاقات المتجددة والفوسفات وصناعة البطاريات الكهربائية، مع تزايد اعتماد الشركات الصينية على المغرب كمنصة لوجستية للنفاذ إلى إفريقيا وجوار المتوسط.
تقرير صادر عن Policy Center for the New South أكد أن الصين باتت “أكثر وعياً” بأهمية الاستقرار في الصحراء لحماية مصالحها المتنامية، بينما يذهب محللون دوليون إلى أن بكين ما تزال حريصة على عدم خسارة الجزائر، في إطار توازن دقيق بين مصالحها الاقتصادية ومواقفها السياسية التقليدية.
الباحث جوناثان فالتون أوضح بدوره أن الصين تتجنب الانخراط في نزاعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تفادياً لترجيح كفة طرف على حساب آخر، لكن التحركات الأخيرة تُظهر أن بكين تقترب تدريجياً من رؤية أكثر براغماتية تُعطي الأولوية للمصالح الاقتصادية بعيدة المدى.
وهكذا، تبدو زيارة بوريطة إلى الصين أعمق من كونها لقاءً بروتوكولياً، إذ كشفت عن مسار دبلوماسي جديد يجمع بين حسابات الاقتصاد وتوازنات السياسة.
كما عزّز امتناع الصين في مجلس الأمن الانطباع بأن بكين تدرس، بهدوء ولكن بثبات، تموضعاً جديداً قد يجعلها في المستقبل أقرب إلى دعم المبادرة المغربية للحكم الذاتي باعتبارها الحل الأكثر استقراراً وتوافقاً مع مصالحها في شمال إفريقيا وفي مسار نفوذها داخل الجنوب العالمي.





تعليق واحد