آراءسياسة
أخر الأخبار

المغرب – الجزائر.. هل من أمل ؟

فالمؤسسة العسكرية ظلت تمثل الفاعل الحقيقي في صناعة القرار، بينما بقيت السلطة المدنية محدودة التأثير، تخضع لمعادلات الولاء والتوازن بين أجنحة الحكم..

د. خالد خالص

منذ فجر استقلالها في الخامس من يوليوز 1962، لم تعرف الجزائر طعم الاستقرار السياسي الحقيقي. فالدولة التي خرجت من استعمار فرنسي دام أكثر من 130 عاما، وجدت نفسها سريعا غارقة في صراعات داخلية بين جناح الثورة السياسي وجناحها العسكري.

كانت لحظة الاستقلال بالنسبة للجزائريين حلما مؤجلا، لكنها تحولت إلى بداية مرحلة جديدة من التوترات، لا إلى نهايتها.

حتى قبل إعلان الاستقلال، كانت بوادر الصراع قد بدأت داخل الثورة نفسها. فقد تشكلت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (GPRA) في 19 شتنبر 1958 بالقاهرة، كواجهة سياسية للثورة في الخارج، تضم قيادات من جبهة التحرير الوطني (FLN) والجيش الوطني للتحرير(ALN).

لكن سرعان ما تحولت هذه الحكومة إلى ساحة مواجهة بين التيار الدبلوماسي المعتدل بقيادة فرحات عباس، والتيار العسكري المتشدد المدعوم من قادة جيش الحدود بقيادة هواري بومدين.

وفي سنة 1961، أطاح المجلس الوطني للثورة بفرحات عباس بسبب خلافات حادة حول أسلوب التفاوض مع فرنسا، ليخلفه بن يوسف بن خدة. ذلك الحدث المبكر كشف أن الانقسام في الرؤية بين الساسة والعسكريين كان عميقا ومتجذرا قبل قيام الدولة نفسها.

ما إن أعلن استقلال الجزائر في يوليوز 1962 حتى تفجرت أزمة شرعية بين الحكومة المؤقتة وقيادة جيش الحدود. ففرضت المؤسسة العسكرية نفسها بوصفها القوة الحاسمة في موازين القوى، لتبدأ حقبة طويلة من هيمنة الجيش على القرار السياسي. كانت تلك اللحظة بمثابة ولادة الدولة على وقع صراع داخلي لم يحسم بعد.

ومنذ ذلك التاريخ، تعاقب على الحكم في الجزائر تسعة رؤساء، أغلبهم وصل إلى السلطة عبر الأزمات أو الانقلابات، في مشهد يعكس هشاشة البنية السياسية وضعف مؤسسات الدولة:

1. أحمد بن بلة (1965-1962) – أول رئيس للجمهورية، أطيح به بانقلاب عسكري قاده وزير الدفاع هواري بومدين.

2. هواري بومدين (1978-1965) – جمع بين السلطتين السياسية والعسكرية، أرسى نظاما اشتراكا صارما، وحكم بقبضة حديدية حتى وفاته.

3. رابح بيطاط (1979-1978) – تولى الرئاسة مؤقتا خلال مرحلة انتقالية قصيرة.

4. الشاذلي بن جديد (1992-1979) – حاول إدخال إصلاحات وانفتاح سياسي، لكن عهده انتهى بإلغاء الانتخابات التشريعية وصعود الإسلاميين.

5. محمد بوضياف، (16 يناير 1992- 29 يونيو 1992)

6. المجلس الأعلى للدولة (1994-1992) – مرحلة دموية تلت اغتيال الرئيس محمد بوضياف وغرقت فيها البلاد في “العشرية السوداء”

7. اليمين زروال (1999-1994) – ضابط سابق حاول التهدئة وفتح حوار مع بعض الفصائل المسلحة قبل أن يستقيل.

8. عبد العزيز بوتفليقة (2019-1999) – حكم عشرين عاما بسياسة “الوئام المدني”، لكن فترته عرفت فسادا واسعا وانتهت بـ”الحراك الشعبي”

9. عبد القادر بن صالح (2020-2019) رئيس مؤقت بعد استقالة بوتفليقة.

10. عبد المجيد تبون (2019–إلى اليوم) يحكم في ظل نظام شبه رئاسي تطغى عليه الوصاية العسكرية واستمرار القيود على الحريات.

وتبدو كل مرحلة سياسية في الجزائر وكأنها تبدأ بتصفية رمزية أو فعلية لما قبلها.

في غياب مؤسسات مستقرة أو تداول سلمي على السلطة، ظلت البلاد أسيرة منطق “الثورة الدائمة” لا “الدولة المستقرة”.

بل إن الجزائر تعد من الدول القليلة في العالم العربي التي سجنت أو حاكمت رموزها السياسية والفكرية والاقتصادية من داخل النظام نفسه: جنرالات، وزراء، مثقفون، صحافيون ورجال أعمال.. الكل يمكن أن يجد نفسه في السجن حين تتغير موازين القوة.

هذا المشهد يعكس، في جوهره، صراعا داخل السلطة أكثر مما يعكس تطبيقا للقانون.

فالمؤسسة العسكرية ظلت تمثل الفاعل الحقيقي في صناعة القرار، بينما بقيت السلطة المدنية محدودة التأثير، تخضع لمعادلات الولاء والتوازن بين أجنحة الحكم.

إن الأزمة الجزائرية لا يمكن اختزالها في تبدل الوجوه أو سياسات الحكومات.

إنها أزمة بنيوية في طبيعة الحكم ذاته: دولة ولدت من رحم الثورة واحتفظت بشرعيتها الثورية كمرجعية دائمة، لكنها تأخرت في بناء شرعية دستورية تفصل بين السلطة المدنية والعسكرية، وبين الحزب والدولة، وبين الوطن والسلطة.

بعد أكثر من ثلاثة وستين عاما على الاستقلال، والجزائر ما تزال تبحث عن توازن يضمن التداول السلمي على السلطة ويؤسس لدولة القانون والمساءلة.

في خضم هذه التحولات الداخلية، كان من السهل على النظام الجزائري أن يجد في المغرب “العدو المثالي” لتوحيد الصف الداخلي إذ تحولت قضية الصحراء وكذا اتفاقيية ابراهام إلى أداة سياسية تعبئ الداخل وتعيد إنتاج الخطاب الثوري القديم.

لكن الحقيقة أن الأزمة الجزائرية داخلية قبل أن تكون حدودية أو سياسية، وأن إصلاح الذات شرط لأي علاقة طبيعية مع الجار المغربي.

وإذا كانت الجزائر قد ولدت من رحم الانقسام، وأنها من رحم الثورة ما تزال تحاول أن تبني دولة فالتاريخ الطويل من الأزمات والانقلابات لم ينتج بعد مؤسسات قوية قادرة على إدارة الاختلاف أو على بناء الثقة سواء في الداخل أو مع الجوار وغير الجوار.

ومع ذلك، يبقى الأمل قائما في بناء جزائر جديدة.. دولة مدنية، لا عسكرية، قادرة على مصالحة نفسها أولا، ثم جيرانها والآخرين ثانيا.

حينها فقط يمكن أن يتحول السؤال: “هل من أمل؟” إلى جواب: “نعم، حين تسود الدولة على الثورة“. أما مع الوضع الحالي فالجواب بالنفي قطعا.

https://anbaaexpress.ma/v26ll

تعليق واحد

  1. شكرا وكل التحيه الصادقه للاستاذ خالد خالص على هذا الراي والعطاء الصاءب التاريخي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى