انتخب الأميركيون عام 2009 باراك أوباما أول رئيس من أصول أفريقية لولايتين متتاليتين. لم يكن الأمر نزوة، بل تحوّلا حقيقيا في مزاج أميركا أبقى ذلك الرئيس 8 أعوام في البيت الأبيض.
وحين تغير ذلك المزاج جاءت الكتلة الناخبة بنقيض “شديد البياض”، مستدعية تاجر العقارات الرأسمالي اليميني الجمهوري دونالد ترامب.
وبدا أن تحوّلا لذلك المزاج انقلب على نصر ترامب الرئاسي ليحمل إلى عمادة مدينة نييورك هنديا أوغنديا مسلما يساريا اشتراكيا ديمقراطيا وكثير من الصفات الأخرى.
تشبه ظاهرة زهران ممداني الولايات المتحدة بصفتها “أرض الأحلام والفرص وأرض المهاجرين”. كما أن حكاية نيويورك بالذات المطلّة على العالم وما يدفع به موج المحيط إلى برّها، تبرّر صعود نجمها الجديد.
ومن حمل الشاب الثلاثيني الى نصره هم أهل المدينة، تماما كما حملت لندن العريقة صادق خان، مسلما يساريا عماليا من أصول باكستانية، عمدةً ما زالت تجدد لبقائه منذ عام 2016.
يكره ترامب عمدة لندن وهو يكره هذه الأيام عمدة نيويورك الجديد. هدده إن فاز، ثم نصحه بعد الفوز بالتعاون، آخذا عليه فقط أنه “شيوعي” في سعيّ لشيطنة هذا الصاعد الذي أكد أنه “لن يعتذر” عن كونه مسلما اشتراكيا ديمقراطيا.
لكن المقلق بالنسبة للرئيس الأميركي، الذي ما برحت ترامبيته تقتحم العالم وتبني لها في أوروبا أمجادا وتيارات تتقدم نحو الحكم، أن تلك “الممدانية” التي يبشّر بها زهران قد تشاغب على حصون الـ MAGA التي بدت لنا أنها قدر اميركا النهائي.
رغم أنها انتخابات محلية لاختيار عمدة جديد لنيويورك، غير أن نتائجها شكّلت اختباراً لما يمكن أن تكشفه من توازنات سياسية على مستوى كل للبلاد.
وفيما تناقش المتنافسون في قضايا التنمية والنقل والسكن وفرص العمل ومكافحة الجريمة ومستوى الضرائب، غير أنه كان للانتخابات بعدٌ يتداعى على الموقف من السياسة الخارجية، لا سيما تلك المتعلقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني وموقف الأميركيين وسكان نيويورك من تلك القضايا.
اشتدت المنافسة بين ثلاثة مرشحين رئيسيين: زهران ممداني، المرشح الديمقراطي اليساري، أندرو كومو، الحاكم السابق الذي ترشّح كمستقل (ونال دعم ترامب نكاية بممداني)، وكورتيس سليوا، المرشح الجمهوري.
وفيما يهيمن الجمهوريون على المشهد السياسي منذ تولي ترامب سدة الحكم بعد فوز ساحق في انتخابات نوفمبر 2024، فإن فوز ممداني (إضافة إلى اختراقات في ولايات فيرجينيا ونيوجيرسي وكاليفورنيا) يجرّ مياه إلى طواحين الديمقراطيين لصعود مأمول بعد نكستهم الرئاسية في الانتخابات الأخيرة.
ولد زهران ممداني عام 1991 في أوغندا، ونشأ في كيب تاون بجنوب إفريقيا، ثم انتقل إلى مدينة نيويورك في السابعة من عمره، والتحق بمدرسة برونكس الثانوية المرموقة للعلوم، وتخرج بدرجة بكالوريوس في الآداب من كلية بودوين. وهو ابن محمود ممداني، الأستاذ في جامعة كولومبيا، وميرا ناير، المخرجة الهندية التي من بين أعمالها فيلما “ميسيسيبي ماسالا” و”زفاف مونسون”.
يجسد الشاب بشخصه خلطة عجيبة. أميركي منذ عام 2018 فقط. مسلم، شيعي المذهب، متزوج من فنانة تشكيلية دمشقية. عضو في الحزب الديمقراطي، لكنه عضو في تيار “الاشتراكيون الديمقراطيون” DSA داخل الحزب.
تمحورت مواقف ممداني حول العدالة الاجتماعية والوعد بتجميد الإيجارات في المساكن المستقرة، وتوسيع النقل العام المجاني عبر الحافلات، وإنشاء متاجر بلدية تبيع بأسعار الجملة للحد من الغلاء، إضافة إلى رعاية مجانية للأطفال.
برنامجه ليس صدى لأيديولوجيا اشتراكية، بل رد طبيعي على أزمة معيشية مزمنة في المدينة وصوت عالً ضد أثرياء يزدادون ثراء، حسب توصيف بيرني ساندرز زعيم التيار اليساري داخل الحزب الديمقراطي.
أضاف ممداني إلى خطابه الاجتماعي خطاباً سياسياً مستفزّاً وجريئاً يدعم حركة المقاطعة والعقوبات ضد إسرائيل (BDS)، ويعارض الرأسمالية المتطرفة، ويدعم السياسات البيئية الخضراء. ويمتلك الشاب (34 عاماً) كاريزما قوية جاذبة للشباب والمهاجرين. بالمقابل واجه انتقادات بسبب مواقفه الراديكالية التي يراها البعض تهديدا للأمن والاقتصاد.
يجيد ممداني فنّ الكلام وحرفة الخطابه مثله مثل ترامب وأوباما. ولئن لا يحقّ له الترشّح للرئاسة لكونه مولودا، كما إيلون ماسك (مثلا)، خارج الولايات المتحدة، فإن الرجل، إن أجاد الصنعة على رأس نيويورك، فسيصبح حصان الحزب الديمقراطي الرابح الذي قد يعيد للحزب في الانتخابات النصفية خريف عام 2026، أصواتا ديمقراطية تقليدية جذبها سحر ترامب ووعوده التي لا تقاوم.
لا يستطيع عمدة نيويورك الجديد أن يغير وحده كثيرا من قواعد اللعبة في السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة. لكن الرجل ينهل كثيرا من شعار أوباما الشهير “نعم نستطيع” ومن وعد ترامب بـ “جعل أميرك عظيمة من جديد”، ليغير من أبجديات العمل السياسي والقطع من كونها عملية استمرار من داخل تقاليد الـ “Establishment” والدولة العميقة. ولا شك أن الرجل يتمتع بمواهب عرفناها مع ظاهرتي أوباما وترامب لكي يدفع الاستفزاز إلى حدود قصوى هي أشبه بمقامرة الخاسرين.
يستنتج ممداني بحرفية أن نيويورك، وربما لاحقا بقية الولايات، تحتاج إلى خطاب جذري يكون نداً لخطاب جذري آخر بات من عاديات الترامبية وتيارات اليمين المتطرّف في العالم الذي يكاد يلامس العنصرية وفكر “الرجل الأبيض”.
حمل ممداني ترياقا مضادا مقامرا جعل منه ثوريا اشتراكيا مسلما، معارضا للاستغلال، مدافعا عن الفقراء، مدينا لفحش غنى الأغنياء، مستنكرا الحرب في غزّة، معاديا لإسرائيل، واعدا بالقبض على بنيامين نتنياهو إذا ما مرّ يوما بمدينته.
خلطة انتخابية فيها جرعات عالية من الشعبوية هي عدّة شغل بدا أنها كانت فعالة ناجحة في تحقيق نصر واضح لا لبس فيه أعلنه (50.4 بالمئة) مبكرا، واعترف به خصومه من دون تردد. فالمرشح المسلم نال 33 بالمئة من أصوات الكاثوليك و42 بالمئة من أصوات البروتيستانت وطبعا 92 بالمئة من أصوات المسلمين.
وهو كمعادي لإسرائيل وواعد باعتقال نتنياهو نال 32 بالمئة من أصوات اليهود. ولئن تفصح تلك النسب عن مزاج الطوائف، غير أن المزاج العام لغير الدينيين صبّ أوراقه لصالح ممداني على الأقل انتقاما من سيرة من سبقوه وتسببوا في ما وصلت إليه نيويورك من مصير.
ممداني هو حكاية أميركية قد تكون عصيّة على الفهم ممن يعوّلون عندنا بشكل مفرط على المسلم الاشتراكي الشاب لسوق الولايات المتحدة إلى اهواء المنطقة وهي كثيرة معقدة متناقضة.
وما بين انتخابات نيويورك والانتخابات النصفية عام كفيل بصناعة مزاج انتخابي آخر له أولويات أخرى وحكايات جديدة غير تلك التي بدّلت هوية عمدة نيويورك الذي -كما عمدة لندن- هو تفصيل في خارطة انتخابية شديدة التعقيد.




