محمد دياب
بينما يستمر الاحتلال في فرض قيود خانقة على دخول السلع الأساسية إلى قطاع غزة – من الغذاء إلى الدواء ومواد الإغاثة – يبرز مشهد مفارق يتمثل في السماح بدخول كميات كبيرة من الهواتف المحمولة بأنواعها المختلفة، وبمستويات تفوق ما كان متاحاً قبل الحرب.
هذا التناقض يطرح سؤالاً مركزياً: لماذا تُفتح بوابة الهواتف على مصراعيها فيما تُغلق بوابة الاحتياجات الإنسانية؟
تحليل هذا السلوك يقود إلى ثلاثة مسارات رئيسية تتقاطع فيها الحسابات الاقتصادية مع الأهداف الدعائية والبعد الأمني.
استنزاف السيولة المالية داخل القطاع
يدرك الاحتلال أن الحرب أدت إلى تدفق مبالغ مالية إلى غزة، سواء من التبرعات الفردية أو المبادرات الإغاثية أو تحويلات المغتربين. وبالسماح بدخول الهواتف – وهي سلع ذات طبيعة استهلاكية ومرتفعة الثمن – يخلق الاحتلال سوقاً جاذبة تستنزف الأرصدة المحدودة المتاحة لدى السكان.
إغراق السوق بهذه المنتجات لا يهدف فقط إلى توجيه الناس نحو إنفاق ما تبقّى في أيديهم، بل يحقق للاقتصاد الإسرائيلي منفعة مباشرة، باعتبار معظم هذه الأجهزة تمر عبر سلاسل توريد خاضعة له أو مستفيدة منه. هكذا يتحول الهاتف المحمول إلى أداة مالية تُعيد تدوير السيولة من غزة نحو اقتصاد الاحتلال.
صناعة صورة زائفة عن الواقع الإنساني
يسعى الاحتلال منذ بدء الحرب إلى إعادة تشكيل سردية ما يجري داخل القطاع عبر أدوات متعددة، أحدها استخدام مشاهد مقتطعة تُظهر توفر بعض السلع غير الأساسية. إدخال الهواتف – خصوصاً الأصناف مرتفعة السعر مثل أجهزة iPhone – يسمح بصناعة انطباع خارجي مضلّل مفاده أن السكان ليسوا في حالة انهيار إنساني شامل.
هذا الأسلوب يوظفه الاحتلال لخلق توازن إعلامي يخدم خطابه السياسي، بحيث تُستبدل مشاهد الجوع والدمار بلقطات تُظهر بيع وشراء هواتف، في محاولة لطمس واقع الحصار وتخفيف الضغط الدولي. بكلمات أخرى، هذه الهواتف ليست مجرد أدوات اتصال، بل عناصر لصناعة مشهدية تخدم رواية لا تعكس الواقع الحقيقي.
توسيع مساحة المراقبة وجمع البيانات
في العمق الأمني، يشكل انتشار الهواتف المحمولة داخل قطاع غزة مساحة خصبة للمراقبة والاستخبار. فحتى إن كانت الأجهزة غير مُهيأة مسبقاً كما جرى مع “البيجر”، إلا أن الهاتف الذكي نفسه يبقى منصة مفتوحة أمام تقنيات التجسس الحديثة.
يمتلك الاحتلال قدرات تكنولوجية متقدمة تتيح تعقب الاتصالات، وتحليل أنماط الاستخدام، ورصد الحركة السلوكية للمستخدمين. وتوفر تطبيقات الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي كمية هائلة من البيانات التي تُستخدم في بناء خرائط اجتماعية وأمنية دقيقة، سواء لأغراض تعقب الأفراد أو تحليل المزاج العام أو استخلاص معلومات عملياتية.
من هذا المنظور، يتحول الهاتف الذي يبدو وسيلة للتواصل إلى بوابة مراقبة واسعة، تمنح الاحتلال قدرة مضاعفة على جمع المعلومات، في سياق حرب تعتمد بشكل كبير على الاستخبارات التقنية.
في ضوء هذه الأبعاد مجتمعة، يبدو السماح بدخول الهواتف المحمولة ليس قراراً اعتباطياً، بل جزءاً من استراتيجية مركّبة توظّف الاقتصاد والدعاية والأمن في سياق واحد.
وبينما تستمر أزمة الغذاء والدواء بلا انفراج، تجد الهواتف طريقها بسهولة إلى غزة، في مشهد يلخص مفارقات الاحتلال ويكشف عن طبيعته بوصفه سلطة تتحكم بالأولويات بما يخدم مصالحها، لا بما يراعي الحد الأدنى من الاحتياجات الإنسانية لسكان يعيشون تحت نيران الحرب والحصار.
* صحفي وباحث في الشؤون السياسية من غزة




