آراءثقافة
أخر الأخبار

على حافة المصير.. في قوة الفهم وهشاشة العقل مع الفيلسوف النمساوي د. هانز كوكلر

سنتحوّل إلى بلهى حقيقيين، وقريبا سيختفي الفكر النقدي، ويصبح النقد نفسه جاهزا بفضل الذكاء الاصطناعي. ربما كانت التقنية يوما قد حلّت محلّ العبيد، إيذانا بانتهاء عصر الرّق، لكن الذكاء الاصطناعي سيحوّلنا إلى قطيع، لأنّه سيفكّر عنّا..

لنتعلّم كيف تشتغل الخوارزميات داخل دماغ الفيلسوف، مدخلاتها ومخرجاتها، حيث للوجود والعقل والإنسان والعلائق الدّولية معنى يقتضي فورة مفهومية استثنائية.

إنّ الفلسفة تنهض هنا كمقاومة ضدّ البلاهة، العبارة التي استخلصها دولوز من الموقف النيتشي، إنها صناعة المفاهيم لا تكرارها، وبذلك نحمي العقل التّأمّلي والفكر النقدي، حيث أنّ وجود الفكر بلا شرط التركيب هو نفسه اللاّفكر متترسا بالفكر الجاهز في منظور ميلان كونديرا. لا يكفي الاشتغال بالمفاهيم، لكن كيف يتعين سياستها في سوق حرّة لا تتمتّع بجهاز حماية المستهلك.

إنّنا مع كونديرا أيضا نقف على تحدّي مزدوج على طرفي نقيض، إذ في “كائن لا تحتمل خفته” نحن إزاء تحدي الاختيار، الخفة والتحرر الزائف واللاّمعنى، وإمّا أمام ثقل السؤال الأنطولوجي، بين شرود توماس والتزام تيريزا؟ نحن لسنا أمام اختيار ثقل السؤال، وبالتالي ثقل المقاربة التي تقتضي قوة المفهمة. إنّ للمقاومة وجوها، وأهمها في المرتبة: مقاومة البلاهة.

مع البروفسور هانز كوكلر واستعادة السؤال الكانطي

مرة أخرى ينقلنا الفيلسوف النمساوي المخضرم إلى عمق الأشياء، فلقد اكتشفتُ بعد معاناة كثيرة مع خفّة المحتوى الفلسفي المدجّج بالمفهمة المغشوشة (la conceptualisation trompeuse)، بأنّ فهمي يقوم على الخوارزميات نفسها، بخصوص فهم العقل وعقل الفهم.

فبدعوة كريمة من منسقي اللقاء ومنظميه، التأم اللقاء في قاعة عبد الواحد خيري بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء (12/11/2025)، رفقة الأصدقاء والزملاء: د. حميد لشهب، “قائم مقام” الترجمة الفورية من الألمانية سيكولوجي وباحث فلسفي، د. عبد اللطيف فتح الدين أستاذ الفلسفة بالكلية ومدير مختبر الفلسفة وقضايا العصر، والتحاق السيدة عميدة الكلية د. ليلى مزيان، والأهم هو رفقة رئيس شعبة الفلسفة د. محمد الشيخ، الذي يسعى لكسر كائن لا تحتمل خفته بثقل/خفته الساخرة، الفلسفة كملهات تنطوي على رصيد زاخر بالجدّية، تخفيفا من حالة الشلل التي تقدحها البلاهة، شكل من الإبداع الذي يطلق الفلسفة من معتقل الكاطيغورياس. السخرية هي أفضل طريقة لمقارعة البلاهة (la Bêtise)، هذا بالإضافة إلى عديد من الأساتذة والطلبة.

بالعودة إلى عرض هانز كوكلر، تبدو الحكاية واضحة من العنوان، منح الفهم (l’entendement) القيادة الحاسمة في تجاوز كبوة العقل حين يصبح أداة لهيمنة الخصوصية ومنطق القوة، والتنكر لمهمّة التوافق.

لكي ندرك من أي خبرة يصدر هذا الموقف، فهانز كوكلر (18 اكتوبر 1948)، هو الوريث الأكبر للهيدغيرية، مضافا إليها خبرته النظرية والعملية في القانون الدولي. هو صديق العرب حيث تبنى قضاياهم العادلة بشكل شجاع.

ليست له معرفة مباشرة بألكسندر دوغين على الرغم مما يبدو من تناظر الرهان الأنطولوجي، سألته على مائدة الغداء إن كانت له معرفة بدوغين وآرائه، لكنه نفى ذلك، فقط لفت انتباهه أن دوغين في إحدى أبحاثه أحال على إحدى أعمال كوكلر. رئيس منظمة التقدم الدولية (I.P.O)، الذي انتدبته الأمم المتحدة في مهمة الوساطة في ملفين أساسيين: تبادل الأسرى بعد وقف الحرب العراقية-الإيرانية، وملف لوكربي.

من العقل الخالص إلى العقل العملي

يتساءل هانز كوكلر: لماذا يقع الحكماء غالبا تحت تأثير الأقوى؟ وطبعا الأمثلة كثيرة: أفلاطون وديونسوس الأوّل والثاني بسرقوسة، وصولا إلى هيدغر وهتلر؟ يتساءل أيضا: لماذا في أوقات الأزمات والحاجة لا يستطيع سوى أقلية قليلة مقاومة رغبة الصراخ مع الذئاب؟ يرى كوكلر أنّ الجواب على هذه التساؤلات تتفاوت بين الفهم والعقل، الفرق بين إنجازات العقل وتطوره مع استحكام التقنية. هنا العقل والفهم كما عالجه كانط في نقد العقل المحض.

إن أحكام العقل الخالص وإن افتقدت صرامة العلوم الإيجابية والتجريبية التي تقتصر على الظواهر، تُعنى بأفكار العالم والروح والله، فهي أحكام لا تشكل معرفة بالواقع الذي يَخْفى كنومينا، فهي تتيح مع ذلك توجيها عاما، فهي تعتبر كأفكار تنظيمية. ومن هنا تأتي مسلمات العقل العملي الثلاث: الحرية والخلود ووجود الله.

تظل هذه الحقائق افتراضا ملزما به يتقوم معنى الفعل الأخلاقي كانطيا. وعلى هذا الأساس يمكن فهم الضرورة المطلقة، حيث يستطيع العقل العملي توجيه العمل نحو الكلّ الأسمى، والصالح العام، كما يمكن فهم الأفق الميتافيزيقي للعالم الذي تفتحه الأفكار التنظيمية للعقل الخالص ومسلمات العقل العملي حسب كوكلر دائما.

غير أنّ هذا الوضع ينتفي مع أسلوب التفكير المتوجه نحو “منطق القوة”. وجب هنا التمييز بين منطق القوة وما قد نفهمه من المنطق الشكلي المتعارف عليه في الواقع السياسي، فمنطق القوة المنسوب للعقل حصريا، هو منطق خاص، أما العقل بالمعنى السابق هو عالمي. إنها إرادة المجموعة أحادية البعد المحددة للحياة السياسية في العالم، والتي هي تهديد لبقاء النوع ككل.

إن تصرف المجموعات الدولية كل لنفسه ووفقا لأولويات المصلحة الوطنية، وليس وفق الضرورة المطلقة، من شأنه استبعاد سيادة القانون الدولي، فليس من الغرابة في شيء إن استمر التأكيد على الذات وتجاهل العواقب المترتبة على ذلك بالنسبة لتلك الدول نفسها والعالم بأسره، أن يصبح التاريخ سلسلة من الحروب اللانهائية. فالغالب حسب كوكلر هو تجاهل الدول لتلك العواقب، وهو ما يؤدي إلى “وحشية سياسية الترهيب المتبادل”.

يبدو السلام بمعنى غياب الحرب فقط، أي السلام المفروض بقوة التكنولوجيا، سلاما هشّا، بل مشكوك فيه أخلاقيا، ما لم يتدخل العقل الهادف إلى المصلحة العامة، لتصحيح ما يجلبه العقل نفسه من إمكانيات الدمار الشامل، ستصبح الحياة تحت سيف ديموقليس.

يخشى كوكلر أن يأتي التّأمل بعد الكارثة كما أظهرت التجارب، فماذا لو حلت الكارثة في عصر أسلحة الدمار الشامل؟ حينئذ سيفوت الأوان. لكن يظل الأمل، وهو الأمل الذي ألهمته إياه تجربته في تنظيم اجتماع روما قبل عقود، وهو الجمع بين مفكرين من العالمين الإسلامي والمسيحي؛ لنتحدث إذن عن العقل وما يتجاوزه.

يميز كوكلر بين العقلانية الغائية للفعل الفردي في الحالة السّوية، والسلوك غير العقلاني للفرد كعضو داخل جماعة، هنا يحضر غوستاف لوبون، كما يحضر ألفريد أدلر وقد لا حظ خلال الحرب العالمية الأولى بالنمسا حالة الشعور بعدم المسؤولية الناشئ داخل الحركات الجماهيرية.

ففي عصر الانترنيت تنامت حالة الهستيريا والحماسة للحرب، تجلى ذلك في الربيع العربي 2011م. وتظهر حسب كوكلر هذه الثنائية الإشكالية بين الفهم والعقل فيما يسميه بالفصام الأخلاقي، حيث تظهر هشاشة العقل بوصفه أداة تصحيحية يقوم عليها الفهم التقني والوظيفي؛ يتعين أن يسترشد الفعل الفردي بمبادئ أخلاقية عالمية.

ويلاحظ أنه عند العمل لتأمين المصلحة الوطنية، حيث لا حدود قانونية لتحقيق المصالح الوطنية بقوة السلاح واستعمال القوة ضد المنافسين، ما يجعل القوة مقبولة اجتماعيا، وهي التي تحول دون تحقيق ما يلزم من قرارات دولية. لا غرابة أن ينتشر الإحباط تجاه الأهداف النبيلة لمجتمع الشعوب الذي كان من المفترض أن تمثله الأمم المتحدة.

وهذا الفصام في السياسة يؤدي حسب كوكلر إلى تناقض في سلوك المواطن، هذا الأخير قد يبدو صالحا في بيئته، لكنه يقر بانعدام القانون في أفعال الدولة، أي ما يسميه الوطنية المبتذلة في السياسة الدولية المتحررة من الأعراف. هنا تغلب الانتهازية على الإلتزام بالصالح العام. هنا “يحتفل الناس بالانتصار الجزئي دون مراعاة الثمن الذي ستدفه الأجيال القادمة”.

هناك ما يجعل الوضع أخطر مع التطور الجامح لتكنولوجيا التسلح، التحدي الذي يواجه العقل، يكمن في التطور السريع للذكاء الاصطناعي. ففقدان السيطرة على الخوارزميات ينتهي بفقدان البشر للسيطرة على أنفسهم. سينتهي الناس تحت توجيه الروبوت، هذا الابتكار التقني من شأنه تقويض العقل تدريجيا، وفقدان التّأمل الذاتي وقوة الاختيار بين خيارات متعددة فيما يتعلق بالمصير البشري.

بما أن البشر لم يعودوا قادرين على مواكبة سرعة الحوسبة، سيفقدون قدرة التدخل في الوقت المناسب. لا يتعلق الأمر بشكل من أشكال الوعي ولا شكلا جديدا للعقل، بل الأمر يتعلق بقوة الحوسبة. فإذا ما سمحنا للذكار الاصطناعي أن يوجه حياتنا اليومية و “توجيه تفضيلاتنا وقيمنا في اتجاهات يمليه مبرمجون مجهولون، فلن يكون هناك، على سبيل المثال، في الحياة الجامعية اليومية، أي مجال للبحث النقدي المستقل، أي الإبداع الفكري، يتخلى المتعلم عن تعلم التفكير”. يقول كوكلر الذي تخلى عن التدريس في إحدى المعاهد بعد أن شعر بلا جدوى التعليم، واستغلال الطلاب للشات جي بي تي:

“بكتابة شات جي بي تي على سبيل المثال، يقوم موقع أوراق دراسية كاملة لطلاب يتظاهرون فقط، أي احتيالا، بإدخال أسمائهم في المساحة المتبقية على صفحة العنوان.

هذا لا يقوض التعليم الأكاديمي فحسب (…) بل يقوض أيضا قدرة المواطنين على تكوين جمهور ناقد، أن يكونوا أكثر من مجرد مستهلكين سلبيين للمعلومات وموضوعات للتكييف السلوكي..”.

وهي أيضا تهديد للديمقراطية من خلال اعتماد التفاعلات الاجتماعية غير المفهومة والجهل التام بالمصالح والجهات الفاعلة الأساسية، مما يؤدي إلى تقويض عملية صنع القرار الديمقراطي. ثمة أمور باتت على المحك، منها الجنس البشري، الكائن العاقل نفسه. قابلية البشر للتأثر داخل الجماعة، شيء يتنامى بشكل كبير، ما يؤدي إلى بروز قادة شعبويين “تتزايد قدرتهم على الإغواء”، وحيث هم أيضا تغويهم حماسة الجماهير المضخمة رقميا.

هناك خداع الناس بأمن زائف، حين تستعمل مفاهيم زائفة مثل السلام من خلال القوة. يشير كوكلر إلى معضلة نزع السلاح النووي التي لا زالت متواصلة منذ بروزها كفكرة، معتبرا أنّه من مهازل الوكالة الدولية للطاقة الذرية عدم قدرتها على إدانة الهجوم على المنشآت النووية لدولة طرف من قبل دولة أخرى طرف في معاهدة منع الانتشار النووي، بالتعاون مع دولة ترفض نزع السلاح النووي وليست عضوا في المعاهدة. وهذا يتعارض مع المعاهدة والقانون الدولي.

على هذا الأساس يتحدث كوكلر عن تآكل الديمقراطية وهيمنة المجمع الصناعي العسكري وفقدان البشرية لتقرير مصيرها. فالعقل البشري يواجه خطر الفشل في مواجهة تعقيد الحياة في ظل تأثير الذكاء الاصطناعي على قدرة البشر على التفكير، مشيرا إلى ايلون ماسك محذرا عام 2023 من خطر تدمير الحضارة من قبل الذكاء الاصطناعي.

يقلل كوكلر من قدرة البشرية على مواجهة هذا التحدي، بالإحالة إلى هيدغر في مقابلة مع دير شبيغل عام 1966 حين قال: “فقط إله يستطيع أن ينقدنا”. في نهاية المطاف يعلق كوكلر أملا على القوة الأخلاقية للأديان العظيمة في العالم، لمواجهة خطر التكنولوجيا الخارج عن السيطرة.

مع كوكلر ضدّ الوضع الدولي الهجين

لقد رأيت أنّني بصدد التفكير مع كوكلر ليس ضد كوكلر، بل معه. لقد حاولت اقتناص أي كبوة لأبني عليها موقفا نقديا مشروعا، لكنني وجدت أفقا للتفكير الفلسفي والسياسي يتحسس حافة المصير، بجدية تقتضي صقل المفهمة وتعزيز المفهوم.

إنّني أرى المعضلة في التمييز بين العقل الذي هو مجموع الأحكام المفترض أنها كلية، وبين التّعقّل بوصفه مُعاقلة، أي عقل توافقي يمنح إمكانية للسلام. إنّ الفهم قوة من حيث أنه يتجاوز معضلة عماء عقل ينسى مهمة تصحيح نفسه باستمرار. رقابة العقل على العقل.

لقد ألهمني واقع التنامي الجامح للتقنية بالفعل إلى إعادة إخراج الموقف البروميثيوسي، بوصفه بلاهة. تلك التقنية الذي لم يكن ليدرك أنها ستنتهي بتقويض العقل والمصير ما أن تستحكم في حياة البشر. برومثيوس الذي جهل الأسباب الحقيقية لمنع بلوغ التقنية بين يدي البشر.

إن صندوق باندورا لم يكن انتقاما، بل هو النتيجة الحتمية لهذه الجريمة في حق المصير البشري. لم يكن برومثيوس سيئ النية، ولكنه أبله. وثمن البلاهة هو ما استنزف العقل البشري، بل لا زالت الفلسفة تقاوم البلاهة بلا جدوى.

ربما سيتيح لنا الذكاء الاصطناعي فرصة لكي نواصل الفرجة، دون أن نمنح العقل قدرة على المضي في جدل الوعي، لأنّ النقيض سيختفي مع تقويض اختيارات العقل.

سنتحوّل إلى بلهى حقيقيين، وقريبا سيختفي الفكر النقدي، ويصبح النقد نفسه جاهزا بفضل الذكاء الاصطناعي. ربما كانت التقنية يوما قد حلّت محلّ العبيد، إيذانا بانتهاء عصر الرّق، لكن الذكاء الاصطناعي سيحوّلنا إلى قطيع، لأنّه سيفكّر عنّا.

ما هو مصير العقل إن فقد القدرة على التّأمّل الذاتي، حين تغيب كل الخيارات، ففي النهاية هناك مبرمج سيتولّى أمر القطيع. أهي إذن لعنة الدازاين (الهيدغيري)، حيث التقنية تنتقم من العقل الذي ابتكرها، كاليد التي تلتف على عنق صاحبها بعد فقد السيطرة عليها؟ لم يعد الأمر يتعلق بمصير الهامش في لعبة تقسيم الوظيفة الإمبريالية، بل الأمر اليوم يتعلق بمصير الجنس البشري.

https://anbaaexpress.ma/0ubie

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى