حذّر تقرير بحثي صادر عن مشروع “التوجهات الكبرى في إفريقيا” التابع للحكومة الألمانية من احتمال عودة المؤسسة العسكرية في موريتانيا إلى واجهة المشهد السياسي، معتبرًا أن الجيش الموريتاني لا يزال يمثل “العمود الفقري للنظام القائم” وأنه يتمتع بتأثير واسع يتجاوز دوره الأمني التقليدي.
الدراسة التي أعدها الباحث الألماني وولفرام لاتشر وصفت الجيش الموريتاني بأنه “شديد التسييس” ومتشابك بعمق مع البنية الاجتماعية والسياسية في البلاد، مؤكدة أن الدعم الخارجي الذي يتلقاه الجيش يحمل في جوهره بعدًا سياسيًا واضحًا.
التقرير أشار إلى أن سلسلة الانقلابات التي عرفتها موريتانيا منذ الاستقلال جعلت المؤسسة العسكرية فاعلًا سياسيًا لا يمكن تجاوزه، مشيرًا إلى أن انقلاب عام 2008 الذي قاده محمد ولد عبد العزيز ورفيقه الحالي في الحكم محمد ولد الغزواني أعاد ترسيخ حضور الجيش في خلفية السلطة، ولو بصورة أقل صدامية.
كما لفت التقرير إلى استمرار “الهيمنة البنيوية” لفئة البيظان، خصوصًا المنحدرين من مناطق الشرق والشمال، على المراتب العليا داخل الجيش، حيث كشفت الدراسة أن من أصل 15 ضابطًا تمت ترقيتهم في مارس 2025 لم يكن سوى ضابط واحد من خارج هذه الفئة، ما يعكس غياب التوازن داخل المؤسسة العسكرية.
وبيّنت الدراسة أن العلاقة بين النخب العسكرية والسياسية في موريتانيا باتت قائمة على تداخل المصالح الاقتصادية، إذ يشارك كبار الضباط في أنشطة تجارية ومشروعات تعدين الذهب، فيما يشغل العديد منهم مناصب سياسية عليا، من بينهم الرئيس الحالي محمد ولد الغزواني، ورئيس البرلمان محمد ولد مكت، ووزير الدفاع حننا ولد سيدي، وهو ما يجعل الجيش – بحسب الدراسة – جزءًا من منظومة السلطة الاقتصادية والسياسية أكثر من كونه مؤسسة دفاعية مستقلة.
وتذهب الورقة البحثية إلى أن نظام الغزواني يعتمد على “القوة العسكرية كضامن أخير للاستقرار”، مع الحفاظ على مظهر ديمقراطي شكلي، في حين لا يتردد في استخدام القمع عند أي تهديد محتمل.
وأوضحت أن الدعم الأوروبي المتنامي للأجهزة الأمنية الموريتانية، خصوصًا في مجالي مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية، عزز من مكانة الجيش لكنه في الوقت ذاته أعاق أي تحوّل ديمقراطي حقيقي.
أما على الصعيد الخارجي، فقد تناولت الدراسة العلاقة الملتبسة بين نواكشوط والغرب، مشيرة إلى أن موريتانيا، بخلاف دول الساحل الأخرى، لم تستضف قواعد عسكرية فرنسية أو أمريكية، وحافظت على خطاب سيادي متوازن يجنّبها التصادم المباشر مع القوى الغربية، لكنه لا يمنحها استقلالًا كاملاً عن تأثيراتها السياسية والأمنية.
ووفق التقرير، فإن هذا التوازن الدقيق قد ينهار في حال تصاعد القمع أو اندلاع توترات داخلية، خصوصًا مع تزايد الاعتماد على التعاون الأمني الأوروبي، وهو ما قد يعيد إلى الواجهة الاتهامات بالتبعية وفقدان القرار السيادي.
وأشار التقرير إلى أن بعض الضباط الموريتانيين الذين يتلقون تدريبات ودعمًا أوروبيًا قد يشكلون في المستقبل نواة محتملة لأي انقلاب جديد، في ظل تاريخ البلاد الطويل مع التغييرات العسكرية، وتراجع الموقف الغربي الحازم تجاه الانقلابات في القارة الإفريقية، كما حدث في مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
الدراسة ختمت بتحديد عام 2029، وهو موعد انتهاء الولاية الدستورية للرئيس الغزواني، باعتباره محطة مفصلية لاختبار قدرة النظام الموريتاني على ضمان انتقال سلمي للسلطة، أو انزلاقه نحو تكرار سيناريوهات الانقلابات السابقة، مؤكدة أن موريتانيا تقف أمام معادلة دقيقة بين استقرار يستند إلى القوة العسكرية، ومستقبل ديمقراطي هش مهدد بانقلاب جديد قد يعيد عقارب الزمن إلى الوراء.




