قدّم جلالة الملك محمد السادس، في رسالته الموجّهة إلى رئيس اللجنة الأممية المعنية بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، رؤية دبلوماسية متماسكة تؤكد ثبات الموقف المغربي من القضية الفلسطينية، وتبرز الدور الذي يمكن للمملكة أن تضطلع به في مرحلة تتسم بتحولات إقليمية ودولية متسارعة.
الرسالة، التي جاءت في سياق إحياء اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، لم تكن مجرد إعلان تضامني، بل وثيقة سياسية تحمل عناصر تصور عملي لإعادة إحياء مسار السلام بعد سنوات من الجمود.
الخطاب الملكي وضع محددات واضحة لأي تحرك دولي جاد، مؤكداً أن القضية الفلسطينية ستظل محورًا ثابتًا في السياسة الخارجية للمملكة، وأن التعامل مع هذا الملف يجب أن يتجاوز منطق إدارة الأزمة نحو منهجية دقيقة تقود إلى حلول واقعية وذات أفق زمني قابل للتنفيذ.
في هذا السياق، اعتبر الملك أن المرحلة الحالية تمثل فرصة نادرة ينبغي استثمارها، خصوصًا بعد التوصل إلى وقف إطلاق النار الأخير في غزة، والذي مهّد لإعادة ترتيب الأولويات على المستويين السياسي والإنساني.
ولم يفت الملك الإشارة إلى الدور الذي لعبته الولايات المتحدة، ولا سيما الانخراط الشخصي للرئيس دونالد ترامب في دعم التوصل إلى هدنة بعد حرب دامت عامين، مع إبراز أهمية الجهود الإقليمية والدولية وتأكيد استعداد المغرب للمساهمة الفاعلة في كل المحطات المقبلة.
وهو موقف يعكس طبيعة الدبلوماسية المغربية القائمة على الجمع بين المواقف الأخلاقية والعمل الميداني، وعلى الحضور كوسيط موثوق قادر على التواصل مع مختلف الأطراف.
وفي ما يتعلق بالحل السياسي، قدم الملك مقاربة شاملة تعيد وضع حل الدولتين في صلب أي تسوية مستقبلية، من خلال التشديد على ضرورة توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة تحت إدارة السلطة الوطنية الفلسطينية، باعتبار هذا الشرط مدخلًا أساسيًا لقيام الدولة الفلسطينية المستقبلة.
كما أكد على أهمية دعم الرئيس محمود عباس ومؤسسات السلطة، سياسيًا وماليًا وإداريًا، باعتبارها الإطار الشرعي الوحيد المخول له تمثيل الفلسطينيين في المفاوضات النهائية.
وتوقفت الرسالة عند البعد الاقتصادي، مشددة على أن تحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين شرط لاستدامة أي عملية سلام، داعية إلى رفع القيود المفروضة على حركة الأشخاص والبضائع، وإلى خلق بيئة اقتصادية تسمح للفلسطينيين ببناء مؤسساتهم وتعزيز صمودهم.
أما على المستوى الداخلي الفلسطيني، فقد دعا الملك صراحة إلى تحقيق المصالحة تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، بما يعيد ترتيب البيت الداخلي ويحصّن القرار الوطني.
وفي ملف القدس، أعاد الملك التذكير بالمسؤولية التي يضطلع بها المغرب كرئيس للجنة القدس التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي، مشيراً إلى الدور المزدوج الذي يجمع بين التحرك السياسي والدعم العملي عبر وكالة بيت مال القدس.
كما حذّر من التداعيات الخطيرة للسياسات الإسرائيلية الأحادية داخل المدينة المحتلة، مؤكداً أن استمرار الانتهاكات قد يفتح الباب أمام توترات دينية تهدد استقرار المنطقة برمتها.
على المستوى الإنساني، عرضت الرسالة حصيلة الدعم المغربي الموجّه إلى الفلسطينيين خلال العامين الماضيين، بما في ذلك إرسال خمس دفعات من المساعدات منذ أكتوبر 2023، وآخرها الجسر الجوي الذي نقل 300 طن عبر مسار بري نحو غزة، في خطوة لقيت إشادة دولية واسعة. هذا الجانب عزز صورة المغرب كدولة تجمع بين الخطاب السياسي الفاعل والعمل التضامني الملموس.
كما تطرقت الرسالة إلى تنامي الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، معتبرة أن هذا التحول يشكل فرصة حقيقية يجب البناء عليها لإعادة تحريك حل الدولتين.
وفي هذا الإطار، برزت محطة استضافة المغرب للاجتماع الخامس للتحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين في ماي 2025، كدليل إضافي على الدور المتقدم الذي باتت تلعبه الرباط في إعادة صياغة ديناميات الملف الفلسطيني.
خلاصة الرسالة الملكية تؤكد أن الرؤية المغربية تنطلق من واقعية سياسية تدرك حساسية الظرف الراهن، ومن قناعة بأن حل الدولتين لم يعد مجرد خيار تفاوضي، بل ضرورة تفرضها التطورات على الأرض واعتبارات الأمن والاستقرار في المنطقة.
وهي رؤية تجمع بين المبادئ الثابتة والتحركات العملية، وتضع المغرب في صلب الجهود الهادفة إلى صياغة مستقبل أكثر عدلًا للشعب الفلسطيني وأكثر استقرارًا للشرق الأوسط.




