باريس – أميرة عبد العزيز
من المثير للسخرية والدهشة على حدّ سواء أن دولةً تعلن العداء للمغرب رسميًا – تقطع علاقاتها الدبلوماسية، تغلق أجواءها، وتضغط إعلاميًا – تدّعي اليوم أنها وسيط لحلّ نزاع الصحراء المغربية.
هذا ليس مجرد تناقض، بل استهتار صارخ بقواعد الدبلوماسية المنطقية، وتحويل الخصم إلى “قاضٍ في النزاع الذي شارك في إشعاله”.
كيف يمكن لدولة بنت خطابها السياسي على معاداة المغرب، ثم بنت خطواتها الدبلوماسية على التصعيد والقطيعة، أن تقدّم نفسها اليوم في ثوب الوسيط؟ أيُّ عبثٍ سياسي هذا؟
الجزائر جعلت من العداء مع المغرب سياسةً رسمية، لا مناورة ظرفية. قطعت علاقاتها الدبلوماسية من طرف واحد، أغلقت مجالها الجوي أمام الطائرات المغربية، وفرضت قيودًا متصاعدة على الحركة.
هذه الإجراءات ليست رسائل رمزية، بل أدوات ضغط مدروسة تؤكد بوضوح أن العلاقات ليست فقط متوترة، بل مقطوعة من الأساس، مما ينزع تلقائيًا أي إمكانية للثقة أو التواصل الطبيعي.
ومع ذلك، تستمر الجزائر في محاولة تقديم نفسها كوسيط، في تجاهل مطلق لشروط الوساطة التي يعرفها حتى المبتدئون في العلاقات الدولية: الحياد الحقيقي، الثقة المتبادلة، العلاقات الطبيعية، والمصداقية الدولية.
وكل هذه المقومات غائبة بالكامل عن السلوك الجزائري، ليس فقط من باب التحليل، بل من واقع ممارسات ظاهرة ومتواصلة.
فإعلامها بكل أنواعه – الرسمي، شبه الرسمي، والموجه – يعيش على مهاجمة المغرب دون توقف. الهجمات الإعلامية ليست مجرد ردود فعل، بل خط تحرير دائم: قنوات التلفزيون الحكومية تفتح نشراتها بخطابات عدائية، الصحف المقربة من السلطة تبني صفحاتها على التحريض، والمواقع الإلكترونية المرتبطة بالأجهزة الأمنية تتخصص في صناعة الأكاذيب ضد المغرب. هذا الكم الهائل من التحريض المنظم يجعل من العداء الإعلامي سياسة دولة بامتياز.
أما على مستوى الملف نفسه، فدور الجزائر لا يحتاج إلى تفسير أو تبرير. فهي ليست “قريبة من النزاع” كما تدّعي، بل طرف رئيسي.
دعمها لجبهة البوليساريو هو دعم شامل، تمويل، تسليح، تدريب، منح الأراضي، احتضان المخيمات، الترويج الدبلوماسي، التحرك لصالح الجبهة في المنتديات الدولية، وتوفير غطاء سياسي عبر الإعلام والمؤسسات الرسمية. هذا الدعم العميق يجعل من الجزائر طرفًا مباشرًا في النزاع، وليس بالقطع “وسيطًا” يمكن الوثوق به.
وبين الدعم المادي والسياسي والإعلامي للبوليساريو، وبين التصعيد الرسمي ضد المغرب، يصبح الادعاء بالوساطة موقفًا لا يحترم المنطق.
فمن يمول طرفًا انفصاليًا، ويهاجم الطرف الآخر ليلًا ونهارًا، لا يمكنه بأي معيار عقلاني أو سياسي أن يكون وسيطًا. هو جزء من أصل النزاع وجذوره، ومشارك فعّال في تعميقه.
لذلك، فإن محاولة الجزائر لعب هذا الدور تشبه أن يطلب المتهم الجلوس على منصة القضاء ليحكم في قضية هو أحد صناعها.
الوساطة ليست خطابًا يُعلن، بل موقعًا لا يبلغه إلا من تتوفر فيه النزاهة والحياد. أما أن يتحول الخصم إلى “وسيط”، فذلك هو العبث الدبلوماسي في أوضح صوره.
باختصار، الادعاء الجزائري بالوساطة ليس إلا غطاءً سياسيًا هشًّا لإخفاء دورها الحقيقي: طرفٌ رئيسي في النزاع، وداعمٌ صريح لمشروع انفصالي، وفاعلٌ في صناعة التوتر، لا صانعٌ للحلول.
وفي النهاية، يبقى السؤال الجوهري معلقًا: إلى ماذا تهدف الجزائر بهذا الاقتراح؟
هل تريد قلب الحقائق لتظهر في صورة “الوسيط النزيه” بعدما قضت عقودًا وهي الطرف الأكثر تورطًا في تأجيج النزاع؟
هل تسعى إلى الهروب من مسؤوليتها التاريخية والسياسية عبر لعب دور الضحية؟
أم أنّها محاولة لإرباك المسار الأممي وتحويل الأنظار عن دعمها المباشر للانفصال، بإقحام نفسها في موقع لا تستحقه ولا تمتلك شروطه؟
مهما كانت النوايا الحقيقية، فإن النتيجة واحدة: ادعاء الوساطة هو محاولة فاشلة لإعادة تدوير دورٍ لا يمكن للجزائر أن تلعبه، لا سياسيًا ولا منطقيًا ولا دبلوماسيًا.




