آراء
أخر الأخبار

الديون الكريهة في زمن الحروب والنزاعات.. المسؤولية القانونية وموقف القانون الدولي

تُعرف هذه الالتزامات بـ الديون الكريهة (Odious Debts)، وهي إشكالية ذات أبعاد سياسية واقتصادية قانونية..

د. فارس يغمور 

تتناول هذه الدراسة مفهوم “الديون الكريهة” التي تترتب على الدول خلال فترات الحروب والنزاعات، بوصفها التزامات مالية تُبرم غالباً دون رضا الشعوب أو خارج نطاق المصلحة الوطنية.

وتبحث الورقة الإطار القانوني الدولي الذي يمكن أن يُستند إليه لتحديد شرعية هذه الديون وإمكانية إسقاطها، استناداً إلى مبادئ العدالة الدولية، وعدم الإثراء غير المشروع، وحماية حقوق الإنسان.

وخلصت الدراسة إلى أن تطوير قاعدة قانونية دولية صريحة بشأن الديون الكريهة بات ضرورة لتعزيز العدالة المالية وحماية الشعوب من تبعات الفساد والاستبداد المالي.

تمثل الديون العامة أحد الركائز الأساسية في التمويل الحكومي، غير أن مسألة مشروعيتها تثار عندما تُبرم هذه الديون في ظل أنظمة استبدادية أو في ظروف حروب ونزاعات لا تعبّر عن إرادة الشعوب.

تُعرف هذه الالتزامات بـ الديون الكريهة (Odious Debts)، وهي إشكالية ذات أبعاد سياسية واقتصادية وقانونية، تثير تساؤلات حول مدى إلزام الدولة، بعد انتهاء النزاع أو سقوط النظام، بسدادها، رغم كونها لم تُستخدم لخدمة الشعب، بل أحيانًا كانت أداة لقمعه.

أولاً: الإطار المفاهيمي والتاريخي للديون الكريهة

يرجع أصل المفهوم إلى الفقيه الروسي ألكسندر ساك (Alexander N. Sack) في مؤلفه عام 1927 المعنون “Les Effets des Transformations des États sur leurs Dettes Publiques et Autres Obligations Financières”، حيث عرّف الديون الكريهة بأنها تلك التي تعقدها حكومة استبدادية دون رضا الشعب، وتُستخدم ضد مصالحه، ويعلم الدائنون بطبيعتها غير المشروعة.

تستند النظرية إلى ثلاثة أركان أساسية:

1. غياب رضا الشعب أو ممثليه عند التعاقد على الدين.

2. عدم توجيه الدين لخدمة المصلحة العامة أو التنمية الوطنية.

3. علم الدائنين بعدم شرعية النظام المقترض أو بغرض الدين الفاسد.

وقد طُبّقت النظرية في بعض السوابق التاريخية، منها رفض الولايات المتحدة عام 1898 إلزام كوبا بسداد الديون التي فرضتها عليها إسبانيا، معتبرة أنها ديون غير مشروعة لأنها استُخدمت لقمع الشعب الكوبي.

ثانياً: الديون الكريهة أثناء الحروب والنزاعات المسلحة

في فترات النزاعات، تلجأ الأنظمة إلى الاقتراض الخارجي لتمويل العمليات العسكرية أو تغطية نفقات غير شرعية. وغالباً ما تُستغل هذه القروض في شراء الأسلحة أو تمويل الانتهاكات ضد المدنيين.

وبعد انتهاء النزاع وسقوط النظام، تصبح الدولة أمام التزام مالي لا يعود بأي فائدة على مواطنيها، بل يثقل كاهلها اقتصادياً ويعيق إعادة الإعمار.

من أبرز الأمثلة الحديثة:

ديون نظام صدام حسين التي استخدمت لتمويل الحروب في إيران والكويت.

الديون التي تراكمت على جنوب إفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري، والتي وُصفت بأنها “ديون الفصل العنصري” (Apartheid Debts).

ثالثاً: الموقف القانوني الدولي

رغم عدم وجود نص صريح في القانون الدولي العام يُلزم بإسقاط الديون الكريهة، فإن عدة مبادئ قانونية دولية يمكن الاستناد إليها لتأسيس هذا الموقف، أهمها:

1. مبدأ عدم الإثراء غير المشروع (Unjust Enrichment)، الذي يمنع الدائن من تحقيق مكاسب مالية على حساب الشعب الذي لم يستفد من القرض.

2. مبدأ تقرير المصير الذي يُفهم ضمنيًا بأنه يمنح الشعوب الحق في رفض الديون التي لم تبرم باسمها أو لخدمتها.

3. قواعد القانون الدولي الإنساني، ولا سيما تلك التي تحظر تمويل الأعمال العدائية ضد المدنيين.

4. المسؤولية الدولية للدائنين، إذ يمكن اعتبارهم متواطئين إذا علموا أن القرض سيُستخدم لأغراض غير مشروعة.

وقد تبنت بعض المؤسسات مثل مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) واللجنة الدولية للقانون الدولي دعوات لتطوير إطار قانوني دولي يعالج هذه المسألة.

رابعاً: نحو إطار قانوني دولي منظم

ينبغي أن تتجه الجهود الدولية إلى إنشاء آلية قانونية متخصصة لتقييم الديون الكريهة، تكون تابعة لمحكمة العدل الدولية أو للأمم المتحدة، وتعمل على:

تحديد ما إذا كان الدين مشروعًا أو كريهًا وفق معايير واضحة.

حماية الدول الخارجة من النزاعات من استغلالها المالي.

تعزيز الشفافية في عقود القروض الدولية.

كما يمكن تبني اتفاقية دولية خاصة بالديون الكريهة، تنص على معايير الإلغاء والمساءلة، وتلزم الدائنين بتحري المصلحة العامة عند إقراض الأنظمة غير الديمقراطية.

إن ظاهرة الديون الكريهة تمثل تحدياً أخلاقياً وقانونياً للمجتمع الدولي. فليس من العدالة أن تُحمَّل الشعوب أعباء مالية ناتجة عن قرارات أنظمة فاسدة أو حروب ظالمة.

ويتعين على القانون الدولي أن يكرّس مبدأ “لا مسؤولية للشعوب عن ديون الطغيان” كقاعدة عامة تضمن حماية الدول والشعوب من الاستغلال المالي وتُسهم في بناء نظام اقتصادي دولي أكثر عدلاً واستدامة.

المراجع

1. Sack, Alexander N. Les Effets des Transformations des États sur leurs Dettes Publiques et Autres Obligations Financières. Paris: Recueil Sirey, 1927.

2. Khalfan, Ashfaq & King, Jeff. Advancing the Odious Debt Doctrine. Centre for International Sustainable Development Law, Montreal, 2003.

3. Howse, Robert. The Concept of Odious Debt in Public International Law. UNCTAD Discussion Paper No. 185, 2007.

4. Hanlon, Joseph. Defining “Illegitimate Debt” : When Creditors Should Be Liable for Improper Loans. Jubilee Research, 2002.

5. United Nations Conference on Trade and Development (UNCTAD). Sovereign Debt Workouts : Going Forward. Roadmap and Guide, Geneva, 2015.

6. Paulus, Christoph G. & Liliana, Weege. Odious Debts : The Term’s Revival and Its Legal Consequences. Law and Contemporary Problems, Vol. 70, No. 3, 2007.

7. International Law Commission (ILC). Draft Articles on State Responsibility, Uni

د. فارس يغمور: قاضٍي رئيس وحدة قضائية بالمحكمة الدولية لتسوية المنازعات – إنكودر، لندن – إنجلترا
https://anbaaexpress.ma/rikja

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى