د. فارس يغمور
لم يكن قرار مجلس الأمن الدولي الصادر في 30 أكتوبر 2025 مجرّد وثيقة أممية عابرة، بل جاء تتويجًا لتحولٍ عميق في الفكر السياسي العالمي، واعترافًا متأخرًا بأن زمن الفوضى العابرة للحدود قد انتهى، وأن العالم يسير بخطى حازمة نحو مرحلة جديدة تُعيد الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية وسيادتها، وتحدّ من تمدّد الحركات الانفصالية التي غذّتها العولمة خلال العقود الماضية.
أولًا: الصحراء المغربية من نزاع إقليمي إلى قضية أممية
منذ انسحاب إسبانيا من الصحراء عام 1975، شكّل النزاع حول هذه المنطقة واحدًا من أطول ملفات الأمم المتحدة تعقيدًا. فبين موقف المغرب القائم على الوحدة الترابية والسيادة، وموقف جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر المطالِب بالاستقلال، ظلّ المجتمع الدولي يبحث عن صيغة توازن بين الواقعية السياسية وحق تقرير المصير.
عام 2007 قدّم المغرب مبادرة الحكم الذاتي، التي منحت لسكان الأقاليم الصحراوية صلاحيات واسعة في إدارة شؤونهم المحلية تحت راية السيادة المغربية. ومع مرور السنوات، تحوّلت هذه المبادرة إلى المرجعية الوحيدة التي تحظى بوصف “الجدّية والواقعية والمصداقية” في قرارات مجلس الأمن المتعاقبة.
ثانيًا: القرار الأممي الجديد – تثبيت للسيادة المغربية
القرار الأممي الأخير (2797/2025) الذي قدّمته الولايات المتحدة وصادقت عليه أغلبية أعضاء المجلس، نصّ بوضوح على دعم الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية، معتبرًا أنه الحل السياسي الأكثر قابلية للتطبيق. كما دعا الأطراف إلى استئناف المفاوضات تحت إشراف الأمم المتحدة، مع التأكيد على التعاون الإقليمي لتحقيق الاستقرار والتنمية في شمال إفريقيا.
هذا القرار لا يُعدّ فقط دعمًا لمقاربة الرباط، بل هو أيضًا اعتراف ضمني من المجتمع الدولي بفشل الطروحات الانفصالية التي عرقلت التسوية طيلة نصف قرن. إنه قرار يؤسّس لتوازن جديد في مقاربة الأمم المتحدة للنزاعات ذات الطابع الانفصالي، حيث تُقدَّم سيادة الدولة على مشاريع التفكيك والتمرد.
ثالثًا: التحوّل الأمريكي ودور الدبلوماسية الواقعية
لا يمكن فصل هذا القرار عن التحوّل في السياسة الخارجية الأمريكية منذ إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي كانت أول من اعترف رسميًا بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية سنة 2020.
اليوم كذلك تأتي إدارة ترامب بعد إدارة بايدن، لتُثبّت هذا الموقف ضمن إطار أممي، في ما يبدو استمرارية ناعمة لنهجٍ دبلوماسي جديد يقوم على الواقعية البراغماتية بدل الشعارات الإيديولوجية.
ولعلّ اللافت أن مسار إعداد القرار شهد حضورًا فعّالًا لمبعوث الإدارة الأمريكية إلى شمال إفريقيا، السيد مسعود بولس، الذي سيشرف على متابعة المفاوضات المقبلة ضمن لجنة خاصة، في ما يمكن اعتباره بداية “مسار تفاوضي جديد” للحكم الذاتي داخل السيادة المغربية.
رابعًا: نهاية فوضى العولمة وبداية نظام السيادة الوطنية
تقول الباحثة السورية مرح البقاعي إن هذا القرار هو “إجماع أممي على نهاية عصر فوضى العولمة الذي قاده اليسار العالمي، وبداية نظام جديد يحترم السيادة الوطنية ويكبح الحركات الانفصالية.”
وهذا القول يلتقط جوهر التحوّل الدولي الراهن: فبعد عقود من تغليب منطق “الإنسان العابر للدولة” و”الحدود المفتوحة”، عاد العالم ليكتشف أن الاستقرار يبدأ من الدولة الوطنية، لا من تفكيكها.
إن مجلس الأمن بقراره هذا لم يُساند المغرب فقط، بل وجّه رسالة عالمية مفادها أن احترام وحدة الدول وسيادتها شرط أساسي لتحقيق السلم والأمن الدوليين.
خامسًا: تداعيات القرار على المغرب والمنطقة
سياسيًا: القرار يكرّس المكاسب الدبلوماسية للمغرب، ويعزّز موقعه كفاعل إقليمي وركيزة للاستقرار في شمال إفريقيا.
اقتصاديًا: يُفتح الباب واسعًا أمام الاستثمارات الدولية في الأقاليم الجنوبية، في ظل رؤية التنمية المندمجة التي أطلقها الملك محمد السادس.
دبلوماسيًا: يُضعف موقف جبهة البوليساريو، ويدفع الجزائر إلى إعادة حساباتها في مقاربة ملف الصحراء بعيدًا عن منطق التصعيد.
استراتيجيًا: يعيد ترتيب التوازنات في المغرب العربي، ويعطي دفعة جديدة لفكرة “الاتحاد المغاربي” على أساس التعاون لا الصراع.
سادسًا: نحو أفق تسوية نهائية
لا شك أن الطريق إلى التسوية الكاملة لا يزال طويلاً، وأن تنفيذ الحكم الذاتي يتطلب إرادة سياسية، ومصالحة داخلية، وانفتاحًا حقيقيًا على جميع المكونات الصحراوية. لكن ما تحقق اليوم هو اعتراف أممي واضح بأن مستقبل الصحراء لن يكون في الانفصال، بل في الاندماج داخل المملكة المغربية الموحدة.
إن قرار مجلس الأمن حول الصحراء المغربية هو أكثر من مجرد وثيقة سياسية؛ إنه إعلان عن مرحلة جديدة في العلاقات الدولية، حيث تُستعاد هيبة السيادة الوطنية، وتُغلق صفحة “الفوضى الموجَّهة” التي حاولت تفكيك الدول عبر شعارات زائفة.
لقد بدأت ملامح نظام عالمي جديد، عنوانه الواقعية والاحترام المتبادل، وتحت رايته ستُبنى حلول النزاعات المقبلة على أسس السيادة لا الفوضى، وعلى وحدة الأرض لا وهم الانفصال.
* عميد المعهد العالي لحقوق الإنسان والعلوم الدبلوماسية
* قاضٍ ورئيس وحدة قضائية بالمحكمة الدولية لتسوية المنازعات – إنكودر لندن – إنجلترا




