آراءمنوعات
أخر الأخبار

بين صندوق.. مي متّى وصندوق عواطف

قشورٌ على حساب الأصالة، وهمٌ على حساب المحتوى. هذه هي ثقافة الـ«أنبوكسينغ»!

شادي منصور 

تأخذني الذاكرة إلى أيّامٍ كانَ اللبنانيّون يتحلقّون فيها بسعادة منقطعة النظير حول التلفاز، ويحرصون ألاّ يفوّتوا حلقةً من برنامج «نهاركم سعيد» على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال.

يومها كانت هناك فقرةٌ تدعى «الكنز المفقود»، وكان المشاهدون يتصلون بالآلاف لترجيح ماذا يوجدُ داخل الصندوق لربح جوائزَ قيمةٍ جدًّا.

ويومَها كانت تطلّ بابتسامة فريدة ولباقةٍ ورصانةٍ لا يطالها شبيهٌ، الإعلامية مَي متّى، وهي من جيل الكبار الذين صَنعوا وقارَ الإعلام وهيبتِه.

«طويل ولّا قصير، مربّع أو مبروم؟».

مفرداتٌ بريئةٌ أدمنَها اللبنانيون، وأضحَت في صلب يومياتِهم وحكاياهم.

مؤخّرًا، ووسط زحام القاعِ الذي تعومُ عليه وسائلُ التواصل ومهووسوها، انتشرت ظاهرة الـ Unboxing، أي فتح الصندوق أو العلبة واستعراض محتوياتها كأنّها حدثٌ جليلٌ مهيبٌ ينتظره جيل اليوم بلهفة!

ماذا يقدّم الـ«انبوكسينغ» اليوم و«انبوكسناته»؟

يقدّم تفاهةً وسطحيةً واستهلاكًا.

فبغباء وببلاهة وسذاجةٍ، يضربُ فيها المثل، تطلُ مؤثرة الحيّ «انبهار»، مع أظافر الساحرات ورموش المكنسة، ترافقها مؤثراتٌ صوتيةٌ وبصريةٌ، وتصرخُ وتنادي متابعيها حتى يتجرّحَ حلقُها وتتورّم حنجرتُها، وتصيحُ كأنها تبيعُ سمكَ السردين في سوق شعبي، وتُعلِمُهم أنّها، ونظرًا لتأثيرها وأهميتّها، حصلت على هديّة قيّمة ستشاركُها مع عشاقها!

لحظاتٌ من التوترِ والحماسِ والترقبِ ترافقُ عمليةَ الـ«انبوكسينغ» الشهير هذا، عشنا تفاصيلها يومًا لمّا تسمّرنا ذات يوم أيام المذياع لسماع نتائج الامتحانات الرسمية!

تررن ترررن ترررررن، تُقرع الطبول وتشتد الأعصاب، وتنفر عروقُ الوجه، ويتمدّد ثغرُها ويتّسع حتى يكشفَ لنا عن أضراس العقل، إذا ما وجد، وتكشفُ لنا المؤثرةُ عن الكنز القابع داخل الصندوق الكرتوني: جوارب مُلوّنة داخل كيسٍ بلاستيكي وقطنياتٌ بوليسترية بخسة الثمن تفتنُ المتابعين وتهزّ مضاجعَهم!

أما زميلتُها في التأثيرِ، «عواطف»، فتشارك محبّيها لحظةً تاريخيةً وهي «انبوكسينغ» لحذاءٍ مروّس النعال 30 سم، وحقيبة غالية الثمن من جلد تمساح بحيرة تنجانيقا الأفريقية، سيترتبُ على موظف قطاعٍ عامٍّ العملَ عشرة أعوام ليجمعَ ثمنها، وقد حصلت عليه بدلًا لأتعابها وجهودها في المجالين العلمي والثقافي.

قشورٌ على حساب الأصالة، وهمٌ على حساب المحتوى. هذه هي ثقافة الـ«أنبوكسينغ»!

صِدقًا وبكلّ محبة، وسط تقديرات بوفاة حوالي ثلاثة ملايين طفل دون الخامسة جوعًا كل سنة وبمعدّل خمسة أطفال وأكثر كلّ دقيقة، ماذا نستفيد؟ وماذا تربح البشرية حقاً حين يرينا من يطلقون على أنفسهم مؤثرين هداياهم ومشترياتهم؟

ما هي رسالتهم؟

لقد تبدّل شكلُ الصندوق، وحقًا تبدّلت العقول، حقًّا تبدّلت!

https://anbaaexpress.ma/42l36

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى