د. أميرة عبد العزيز
ينطلق كارل شميت في نظريته حول “مفهوم السياسي” من فكرة مركزية مفادها أن التمايز بين الصديق والعدو ليس مجرد توصيف أخلاقي أو خطاب تعبوي، بل هو جوهر السياسة نفسها؛ أي أن وجود “العدو” شرط لوجود الفعل السياسي، وأن الجماعة لا تتشكّل وتتماسك إلا حين تُعرِّف ذاتها في مواجهة “آخر” قد يُنظر إليه بوصفه تهديدًا لبقائها.
وفي حين قد تبدو هذه الفكرة ذات طابع فلسفي مجرّد، فإن أحد أكثر أشكال حضورها واقعية هو ما نراه اليوم في كيفية توظيف بعض الخطابات الرسمية والإعلامية في الجزائر لهذا المنطق لإعادة إنتاج المغرب كـ“عدو وجودي”، بما يخدم تماسكًا داخليًا مطلوبًا أو يبرّر اختيارات سياسية واستراتيجية معينة.
إن توظيف الجزائر لمنطق كارل شميت يظهر بوضوح في الطريقة التي يتم فيها تقديم المغرب باعتباره مصدر تهديد دائم، ليس فقط على مستوى الخلافات الحدودية القديمة أو الملف الإقليمي المرتبط بقضية الصحراء، بل عبر تحويل هذا الخلاف إلى عنصر تأسيسي للهوية السياسية.
فبدل أن يكون النزاع مسألة جيوسياسية قابلة للحل عبر الحوار أو التحكيم أو بناء الثقة، يتحوّل — وفق منطق شميت — إلى صراع وجودي تُبنى عليه سرديات الدولة وشرعية السياسات الأمنية والتحالفات الدولية.
وهكذا يغدو “المغرب” ليس دولة جارة تربطها بالجزائر روابط تاريخية وثقافية متعددة، بل رمزًا للتهديد يتم استدعاؤه في اللحظات السياسية الدقيقة لتوحيد الصف، أو لصدّ الانتباه عن أزمات داخلية، أو لإعادة ترتيب الأولويات الوطنية.
ويُعدّ هذا الاستخدام لمنطق الصديق/العدو استراتيجية فعالة في الأنظمة التي تحتاج إلى قوة تعبئة عالية، لأن إنتاج عدو خارجي يُسهِّل بناء شعور بالانتماء الجماعي، ويخلق حالة استنفار دائم تُبرر بها الخيارات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية.
غير أن خطورة هذا النهج لا تكمن في توظيفه السياسي فحسب، بل في آثاره العميقة على الوعي الشعبي وعلى العلاقات بين الشعوب. فعندما يتحول “العدو” من مجرد طرف سياسي إلى “وجه وجودي” يقف على الضفة المعاكسة للهوية الوطنية، يصبح من الصعب فتح أبواب المصالحة أو الاعتراف المتبادل أو التعاون الإقليمي.
وتُعاد صياغة التاريخ نفسه بطريقة تضمن استمرار العداء، وتُهمَّش الروابط المشتركة التي تجمع الشعبين منذ قرون.
إن تحويل المغرب إلى “عدو سياسي” لا يضر بالواقع المغاربي فحسب، بل يقطع الطريق على إمكانية بناء فضاء مشترك في منطقة تحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى استراتيجيات مشتركة في الأمن والطاقة والاقتصاد والتبادلات البشرية.
كما يساهم هذا المنطق في تجميد كل المبادرات التي كان يمكن أن تُعيد صياغة العلاقات بين البلدين على أساس المصالح المتبادلة بدل الهواجس الوجودية. ولا شك أن إبقاء العداء حيًا — وفق تصور شميت — يمنح السياسيين أدوات جاهزة للتعبئة، لكنه في الوقت ذاته يحرم الشعوب حقها في الاستقرار وفي التطور ضمن فضاء جهوي متكامل.
إن المقاربة الجزائرية القائمة على ثنائية العدو/الصديق لا تمثل مجرد خيار سياسي، بل هي انعكاس لبنية نفسية جماعية تحتاج إلى “آخر” كي تثبت ذاتها.
فمن منظور علم النفس السياسي، فإن الجماعات التي تشعر بعدم الأمان أو الهشاشة تبحث عن عدو تُسقِط عليه تناقضاتها الداخلية، وتحمّله مسؤولية أزماتها، وتحوّله إلى مرآة تعكس فيها مخاوفها المكبوتة.
هذا الإسقاط يُنتج ذاكرة جماعية مشوّهة، تتغذى على الخوف والشك، وتعيد صياغة التاريخ بطريقة انتقائية، بحيث يبدو استمرار العداء ضرورة نفسية قبل أن يكون ضرورة سياسية. وهنا يصبح العدو ليس حقيقة خارجية، بل حاجة داخلية.
وعلى المستوى الجيوسياسي، فإن هذه المقاربة تُنتج بيئة غير مستقرة في شمال إفريقيا، حيث يتحول الخلاف الثنائي إلى عامل صراع إقليمي يُستغل من قوى خارجية تبحث عن النفوذ أو تستثمر في الانقسام.
وهكذا تصبح معادلة الصديق/العدو أداة تُضعف المنطقة ككل وتُفقدها القدرة على بناء تكتل قوي قادر على مواجهة التحديات الدولية. إن الإصرار على تحويل المغرب إلى “عدو” لا يعكس فقط أزمة استراتيجية، بل يعكس عجزًا عن بناء سردية وطنية قائمة على الثقة بالذات بدل الخوف من الآخر.
غير أن السؤال الأعمق يبقى سؤالاً فلسفيًا وجوديًا: إذا كانت الدولة لا تستطيع تعريف نفسها إلا عبر “عدو”، فماذا يحدث لهويتها حين يختفي هذا العدو او تختفي اساب التي بنى عليها العداء ؟
هل تبقى موجودة؟ أم أنها بحاجة أبدية للخصومة كي تشعر بأنها حيّة.




