تشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية تحولاً تدريجياً نحو التهدئة بعد أشهر من القطيعة، في وقت يبدو فيه أن الجزائر باتت أكثر إدراكاً لكلفة الاستمرار في المواجهة مع باريس، خاصة مع اتساع الهوة بينها وبين أوروبا وتراجع حضورها في الملفات الإقليمية الحساسة.
فالمشهد الجيوسياسي المتغير في المغرب الكبير، والتقدم الدبلوماسي اللافت للمغرب مع الشركاء الأوروبيين، يضغطان على الجزائر لدفع بوصلتها من جديد نحو الغرب، وبالأخص فرنسا.
التحولات جاءت بعد تصريحات لرئيس الاستخبارات الخارجية الفرنسية نيكولا ليرنر، أكد فيها أن الجزائر أرسلت إشارات إيجابية لإعادة فتح قنوات الحوار، في خطوة عكست رغبة رسمية في إنهاء حالة التأزم.
هذه الإشارات تتزامن مع تراجع اقتصادي واضح وتقلص الاستثمارات الأوروبية، مما يجعل إعادة وصل العلاقات ضرورة استراتيجية وليست خياراً.
وعلى الجانب الآخر، يواصل المغرب تعزيز حضوره الأوروبي، مستنداً إلى شبكة واسعة من الشراكات في الأمن والطاقة والهجرة، وإلى المكاسب الدبلوماسية الأخيرة المرتبطة بقضية الصحراء. هذا التفوق يحفّز الجزائر على إعادة تموضعها لتفادي مزيد من التراجع.
محللون يرون أن الجزائر تواجه عزلة واضحة بسبب توتر علاقاتها ليس فقط مع فرنسا، بل أيضاً مع المغرب وإسبانيا ومالي، مما يفرض عليها مراجعة أولوياتها.
وفي هذا السياق، تكشف مصادر فرنسية عن اتصالات غير رسمية يقودها مسؤول جزائري سابق لإعادة بناء الثقة، مع احتمال عقد لقاء بين ماكرون وتبون قريباً على هامش قمة العشرين، إذا ما اكتملت الظروف السياسية.
خطوات الجزائر العملية ظهرت في دعوتها لوزير الداخلية الفرنسي لوران نوينز لزيارة البلاد، وهو ما اعتُبر بداية ترميم لجسور التواصل.
بدورها بدأت باريس بتغيير لهجتها، مدركة أن التصعيد لا يخدم مصالحها في شمال أفريقيا، خصوصاً في ظل دخول إسبانيا وإيطاليا بقوة على خط النفوذ في المنطقة.
ورغم هذه الإشارات الإيجابية، لا تزال ملفات ثقيلة تعيق التطبيع الكامل للعلاقات، أبرزها قضايا الحقوق والحريات، ومنها ملف الكاتبين بوعلام صنصال وكريستوف غليز. وتضغط أطراف أوروبية لإيجاد حلول لهذا الملف لضمان تقدم عملية التهدئة.
في المقابل، يستمر المغرب في حصد المكاسب الدبلوماسية، مستفيداً من مناخ الثقة الذي أرساه مع شركائه الأوروبيين، مما يضع الجزائر أمام تحدٍّ متزايد لاستعادة دورها التقليدي كفاعل إقليمي مؤثر.
ومع تسارع المتغيرات في محيطها الإقليمي، تبدو الجزائر مضطرة لاعتماد مقاربة أكثر براغماتية توازن بين خطاب السيادة والحاجة إلى الانفتاح على أوروبا. فالعزلة لم تعد خياراً، والمرحلة المقبلة تتطلب إعادة تموضع ذكي يضمن لها الحفاظ على مصالحها دون التفريط بنقاط قوتها التاريخية.




