آراءمجتمع
أخر الأخبار

ما بعد جيل زيد Z بالمغرب “تحليل”

بات هؤلاء يدركون أن قيمة الإنسان لا تكمن في عزلته وانكفائه على ذاته، بل في احتكاكه بالغير، وفي تواجده في الساحة إلى جانب أمثاله للمطالبة بحقهم في الحياة والعيش الكريم

تاريخيًا، كان تكريس التهميش السياسي المستمر في المجتمع مصدر أذى وهلاك. فالعزلة الاجتماعية تتفاقم حين تُبلور وتُنفّذ السياسات والبرامج اللاشعبية، مما يزيد من شعور الجماهير بالإقصاء والحرمان من خيرات أوطانها. وغالبًا ما تجد هذه الفئات المهمّشة نفسها خارج المنظومات التربوية والصحية والإنتاجية لبلدانها.

في الماضي القريب، كانت وتيرة التواصل والتفاعل بين الأفراد بطيئة بفعل ضعف الوسائل التقنية، أما اليوم فقد تغيّر المشهد جذريًا.

أصبحت المعلومة تنتشر بسرعة فائقة، وصار التعبير عن المعاناة متاحًا وسهلًا بفضل الطفرة الرقمية وتطور الشبكات الاجتماعية الذكية علميًا وتكنولوجيًا.

وقد ساهم هذا التحول في نقل انشغالات المتضررين من هوس الهجرة نحو الخارج إلى وعي متنامٍ بحقوقهم داخل أوطانهم، وإلى إيمانهم بضرورة النضال من أجل تحقيقها.

بات هؤلاء يدركون أن قيمة الإنسان لا تكمن في عزلته وانكفائه على ذاته، بل في احتكاكه بالغير، وفي تواجده في الساحة إلى جانب أمثاله للمطالبة بحقهم في الحياة والعيش الكريم.

لقد صاروا يرون أن مصيرهم مرتبط بانخراطهم الجماعي لاستعادة قيمهم الإنسانية العليا، رافعين شعار “الحرية والكرامة”.

إنهم جيل الشباب المغربي، على غرار ما يُعرف بـ “جيل زيد Z“، الذي أفرز حركات احتجاجية كبرى فاجأت الجميع. لقد عكس هذا الجيل في تحركاته حالة من التوتر وعدم التجانس بين القول والفعل والسلوك، وهو ما نتج عنه تمايز داخلي واضح:

فئة تمسكت بسلمية التظاهر والتعبير، وأخرى انزلقت نحو العنف والتخريب بسبب هشاشة تنشئتها وضعف تراكمها المعرفي.

هذه الفئة الأخيرة لم تستطع كبح مكبوتات الكراهية تجاه المختلف عنها، فاستباحت بعض الممتلكات العامة والخاصة، بما فيها ملكيات صغار التجار والحرفيين.

إن المتأمل في مختلف تجليات الحراك الاجتماعي والسياسي الراهن بالمغرب، يدرك بوضوح أن شباب البلاد ينقسم إلى فئات متباينة، تعاني بدرجات مختلفة من آثار فشل السياسات العمومية، خاصة في مجالي التعليم والرعاية الصحية والتشغيل.

فالمنظومة التربوية المعترف بها كونيًا هي نسق معرفي لإنتاج نخب المستقبل، تُبنى على كفاءة الأسرة وفعالية المؤسسات التعليمية وديمقراطية المؤسسات الدستورية.

لذلك، تتصدر العناية بالطفولة والشباب أولويات السياسات العمومية في الدول المتقدمة. فلكي يكون الفرد نافعًا لذاته ولمجتمعه، لا بد أن ينشأ في كنف أسرة متعلمة واعية، وتحت رعاية مؤسساتية متينة.

هذه الفئة الواعية من الشباب موجودة في المغرب (وهي أقلية)، سواء داخل مؤسسات التعليم الوطنية أو في المعاهد والجامعات بالخارج. لقد خضعت ـ عن قصد أو صدفة ـ لتنشئة معرفية جعلتها متميزة في وعيها وتمثلاتها.

إنها فئة شاءت الأقدار أن تتشرب من بيئتها الأسرية قيما جعلتها ترى في التفكير والعمل والمثابرة عناصر أساسية لهويتها. يمكن وصفها مجازًا بأنها “تيار ديكارتي” (ثار أولياؤهم  بشكل طبيعي على ضمير ذواتهم مبكرا)، إذ تتربى في أسر تُشجع أبناءها على التفكير النقدي والعمل الجاد، رغم الصراع الدائم بين ميول الشباب للراحة والترفيه وبين إلحاح الآباء على الاجتهاد والاستعداد للمستقبل.

هؤلاء الأولياء يلقنون أبناءهم أن وقت الطفولة والشباب هو زمن الواجبات لا زمن النضال الجماعي أو الإفراط في الترفيه، وأن التركيز على بناء الذات هو أول الطريق نحو خدمة الغير والمجتمع لاحقًا.

من هنا، يتعلم الجيل الصاعد انتقاء محيطه، والتفاعل مع الأقران النافعين، في ضوء الفكرة الديكارتية القائلة بأن أساس هوية الشخص هو التفكير العقلاني في الذات والمحيط، ومن خلال هذا التفكير يعي المرء ذاته ويفهمها.

يعتمد مربّو هذه الفئة على المعرفة كأساس في تنشئة أبنائهم. فإلى جانب ميلهم الواعي أو غير الواعي للفكر الديكارتي والعقلانية، تمتد رؤيتهم أيضًا إلى الفلسفة كما صاغها “مارتن هايدغر” و”جون بول سارتر” و “هيغل”.

بالنسبة لهايدغر، فإن الانغماس العشوائي في انشغالات الغير دون تكوين ذاتي راسخ يجعل الشاب عرضة للذوبان داخل الجماعة بمنطق القطيع.

فالتكيف الاجتماعي في غياب التربية والتعليم لا ينتج إلا الجمود والانغلاق. وعندما تُحرم الجماعة من التفكير والتربية، تتحول إلى سلطة رقيبة تضيق الخناق على كل إرادة تميّز داخلها.

أما “سارتر”، فيرى أن وجود الغير ضروري في حياة الفرد الناضج فكريًا، لكنه وجود محفوف بالمخاطر، لأن الغير يميل بطبعه إلى الاستهانة بقيمة الآخر. لذلك، يجب أن يجعل الإنسان من التأمل والتفكير عقيدةً في حياته، فبهما يستطيع أن يحول وجود الغير من تهديد إلى وسيلة لتقوية وعيه بذاته.

حينئذ يدرك الفرد أن التربية والتعليم والتفكير المستمر هي مفاتيح التفوق والحرية والسعادة، وأنها السبيل إلى تموقع إيجابي في المجتمع والمساهمة في تطويره.

أما “هيغل”، فقد قدم مفارقة بالغة الأهمية: فوعي الذات لا يتحقق بالذوبان المبكر في الجماعة، بل عبر التنشئة على القيم الإنسانية، وأداء الواجب، والتفكير المتواصل في تجارب الحياة.

وعندما يكتمل نضج الشاب من خلال احتكاك انتقائي بالمجتمع، يصبح مؤهلًا للتفاعل الواعي مع جميع أصناف الغير، فيحقق بذلك “الاعتراف بذاته” ويساهم في ترسيخ قيم العدالة الاجتماعية والتنمية المشتركة.

خلاصة القول، إن تعريض الطفولة المبكرة للذوبان في عادات الجماعة العامية هو بمثابة إعداد لقنبلة قابلة للانفجار عند مرحلة الوعي بالذات.

ومن ثمّ، يتحمل كل راعٍ في المجتمع – من أسرة ومؤسسات ومنظمات مدنية – مسؤوليته في حماية النشء. عليه أن يزرع في الطفل قيم الجد والاجتهاد والتفكير العقلاني الدائم، وأن يعلّمه أن الانتقاء الواعي للغير هو جزء من حقه في التنشئة السليمة.

إن تسريع تراكم المعرفة لدى الأجيال الجديدة كفيل بجعلها فاعلة مؤثرة، قادرة على إقناع أقرانها بذكائها وتميزها، والإسهام في بناء مجتمع “النحن” بدل “الأنا”، مجتمع تتحول فيه الذات الفردية إلى قوة جماعية، و”الأنا الآخر” إلى شريك في بناء “الأنا الأعلى” الواعية بتحديات الحاضر والمستقبل.

https://anbaaexpress.ma/3r15m

الحسين بوخرطة

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى