بعد ساعات من بيان حركة حماس الذي عبرّت فيه عن تعامل إيجابيّ مع خطّة الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب لوقف الحرب في غزّة، صدر من الضفّة الغربيّة بيان موقّع من الرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس يعلن فيه قراره إجراء انتخابات رئاسيّة خلال عام.
وبين البيانَين خرج من واشنطن سيّد البيت الأبيض يستعجل قراءة بيان “حماس” الملتبس المعاني، معتبراً إيّاه نزوعاً للحركة باتّجاه السلام، مطالباً صديقه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بوقف إطلاق النار والتفاوض.
تشبه هذه التطوّرات، بتواترها وتدرّجها، خارطة طريق مشغولة لم تكن الدائرتان العربية والإسلامية بعيدتَين عنها.
هكذا أيضاً يمكن فهم قرار الرئيس الفلسطينيّ “الاستجابة” لرسالة بعثها القياديّ الفلسطينيّ ناصر القدوة، وإصدار قرار إعادته إلى موقعه القياديّ داخل اللجنة المركزيّة لحركة فتح. قد يلاقي الأمر خارطة ستتكشّف يوماً بعد يوم..
يتّسق قرار عبّاس مع إعلانه أمام القمّة العربيّة الطارئة في القاهرة في آذار الماضي عزمه توحيد حركة فتح من خلال “إصدار عفو عامّ عن جميع المفصولين من الحركة، واتّخاذ الإجراءات التنظيمية الواجبة لذلك”.
يُنهي قرار عباس قراراً سابقاً قضى بطرد القدوة من الحركة في آذار 2021، لأسباب في مآلاتها ليست بعيدة عن ذلك المسار الذي أخرج القياديّ محمد دحلان وتيّاره من قيادة وهياكل الحركة في حزيران 2011.
مرشّحٌ للرّئاسة؟
كنت قد التقيت بناصر القدوة قبل أشهر في لندن. كان الرجل يمرّ بالعاصمة البريطانية ضمن زيارات يقوم بها مع إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيليّ الأسبق، ترويجاً لمبادرة مشتركة أنتجت وثيقة مشتركة لإنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
كان ذلك في وقت لم يكن مزاج الإسرائيليّين والفلسطينيّين يتحمّل كلام سلام وعقل وطريق ثالث. وممّا قاله وكشفه وأجاب عليه أنّه لم يكن يتوقّع لحظة قُرب انتهاء قطيعته مع أبي مازن وعودته إلى رام الله وإلى حضن فتح وقيادتها.
ترجّح المصادر أنّ رسالة القدوة وقرار عبّاس من “عُدّة الشغل” التي فرضت أمراً واقعاً جديداً متناسلاً من كواليس خطّة ترامب المتعدّدة الأطراف لإنهاء الحرب في غزّة.
ويرجَّح أنّ عواصم عربيّة تقف وراء خيار عودة القدوة، ابن غزّة، للعب دور داخل الجسم الذي تقترحه خطّة بلير- ترامب لإدارة غزّة ما بعد انتهاء الحرب. ولئن يربط بعض المراقبين عودة القدوة بقرار عبّاس إجراء انتخابات رئاسيّة، لم تستبعد المخيّلة المتفلّتة أن يكون الرجل العائد من منفاه القسريّ مرشّحاً محتملاً لرئاسة سلطة “يُعاد تأهيلها” وفق المفردات التي تداولها موفدو العالم إلى رام الله، وأُعيد استخدامها كشرط لاستعادة السلطة الفلسطينية، يوماً ما، مقاليد الحكم في غزّة.
ناصر القدوة هو ابن غزّة، وابن حركة فتح، وابن أخت الزعيم الراحل ياسر عرفات. شغل الرجل منصب ممثّل منظّمة التحرير في الأمم المتّحدة، ثمّ منصب وزير الخارجية في السلطة الفلسطينية.
وبحكم تلك المناصب، عرفته عواصم العالم وخبِرته، لا سيما بعد تحوّله لاحقاً مبعوثاً عربيّاً – أمميّاً إلى سوريا، ثمّ مبعوثاً من قبل جامعة الدول العربية إلى ليبيا.
وعرفت العواصم العربية المعنيّة بالشأن الفلسطينيّ جميعها القدوة ركناً من أركان العمل الدبلوماسيّ لمنظّمة التحرير والسلطة الفلسطينيّة، قبل أن يُنتخب لاحقاً داخل الصفّ القياديّ لحركة فتح عضواً في لجنتها المركزيّة.
يقرّ القدوة بوجود وصاية دوليّة وضعت غزّة تحت “الانتداب البريطاني” في غمزٍ من قناة توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، المفترض أن يلعب دوراً مركزيّاً في قيادة مجلس السلام الخاصّ بغزّة برئاسة ترامب.
ولطالما زار القدوة لندن وكانت له فيها اتّصالات مع أولي الشأن. ولا شكّ أنّ القدوة، المتزوّج من سيّدة فرنسيّة ويحمل الجنسيّة الفرنسية، سيحظى بدعم باريس ومباركتها.
شخصيّة غزّيّة جامعة
سبق للقدوة أن ظهر في تشرين الثاني 2023، بعد أسابيع من “طوفان الأقصى”، في صورة تجمعه مع القياديّ الفلسطيني سمير مشهراوي، نائب رئيس “التيّار الإصلاحيّ الديمقراطيّ في حركة فتح” الذي يرأسه القياديّ محمد دحلان.
ومناسبة الصورة هي لقاء جمعهما بعدد من قيادات حركة حماس في الدوحة، من بينها إسماعيل هنيّة وخالد مشعل وموسى أبو مرزوق. بمعنى آخر، القدوة الذي يعود إلى فتح شخصيّة مقبولة من “حماس”، ولا يبدو أنّه شخصيّة إشكاليّة لأيّ طرف، ويُرجّح ألّا ينقسم الجسم الفتحاويّ أو الفلسطينيّ بشأنه.
الأرجح أنّ المرحلة المقبلة تحتاج إلى شخصيّة تتقاطع فيها سمات استثنائية لم يخطر على بال القدوة أنّه قد يمتلكها. لا تتحمّل المرحلة قياديّاً شعبويّاً يبيع الفلسطينيّين أبجديّات منتفخة وأوهاماً مجّانيّة، بل شخصيّة يغلب عليها طابع الواقعيّة السياسيّة ومعرفته بأدوات التعامل مع النظام الدوليّ.
والمطلوب فوق ذلك أن يكون شخصيّة من سلالة القيادة التاريخية للعمل الوطني الفلسطينيّ، يجد، وفق ذلك، لدى العامّة والنخب الفلسطينية قبولاً “جينيّاً” وتقبل به الحركتان الأساسيّتان، فتح وحماس، اللتان لم تلتقيا على تسوية أو تفاهم منذ الانقسام الشهير بين الضفّة والقطاع عام 2007.
تبدو السلطة بحاجة إلى شخصيّة غزّيّة تعود بها إلى غزّة، وقد تكون تلك القراءة متسرّعة بالنظر إلى غموض وتعقّد الخطّة الهابطة من البيت الأبيض على فلسطين وكلّ اللاعبين المحلّيين والإقليميّين داخل ملفّها.
ولئن أظهرت السلطة أعراضاً إصلاحيّة حين عيّن الرئيس الفلسطينيّ في نيسان الماضي حسين الشيخ نائباً له، فقد لا يتجاوز سقف القدوة حدود مهمّاته المحتملة، وهي أن يكون ممثّلاً للسلطة الفلسطينيّة في مجلس ترامب الموعود للسلام في غزّة.
لكنّ القدوة المندفع للالتحاق بمركز السلطة في رام الله، محمّلٌ بمعطيات وحيثيّات، كثيرٌ منها غامض، تجعله لاعباً في ما يُدبَّر لقضيّة فلسطين بعد حرب غزّة. ومع ذلك، تنصح مصادر بعدم تضخيم الحدث، ذلك أنّ ما يُرتّب في غزّة قد يجعل من السلطة والقدوة معاً تفاصيل داخل مشهد كبير.




