آراءسياسة
أخر الأخبار

لديّ حلم.. أن يعيش الشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي يوماً ما في سلام ومحبة

من غزة إلى درسدن: التاريخ لا يُمحى، لكنه يُفهم..

نعم، لديّ حلم

حلمٌ لم يعد ترفًا فكريًا، ولا أمنية شاعرية، بل بات ضرورة وجودية لكل شعوب هذه المنطقة الجريحة، التي أُنهكت من الدم، وتكلّست فيها الجراح حتى صار الألم فيها عادة، والموت خبزًا يوميًا.

أكتب اليوم وكلّي يقين أن الكلمات، وإن كانت عاجزة أمام هدير الدبابات، وضجيج الطائرات، إلا أنها تظلّ الملاذ الأخير لأصحاب الضمائر، والنافذة المفتوحة على أفقٍ جديد حين تسدّ الأبواب.

حلمي أن يعود الإنسان في غزة إلى بيته، لا إلى ركامه. ألا يبكي الأب أبناءه تحت الأنقاض، وألا تتخطف المذابح أمل الأمهات في الغد.

أن تُعاد جثامين الرهائن لأسرهم، وأن يعود الأحياء منهم بأقل قدر ممكن من الكسر، فالحياة لا تُعوّض، لكن يمكن أن نمنحها معنى جديدًا.

من غزة إلى درسدن: التاريخ لا يُمحى، لكنه يُفهم

حين نرى غزة اليوم، محاصرة ومحطمة، لا يمكن للإنسان الواعي إلا أن يسترجع صور المدن الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما مدينة درسدن التي حوّلها الحلفاء في فبراير 1945 إلى رماد. مات في أيامٍ قليلة عشرات الآلاف من المدنيين، ودُمّرت كنائس ومتاحف ومكتبات كانت تمثل ذاكرة شعب بأكمله.

لكن ما فعله الألمان بعد الحرب لم يكن يعني الرغبة في الانتقام، بل كان إعادة البناء – لا فقط للبنية التحتية، بل للروح الجماعية.

ألمانيا الغربية اختارت طريق الديمقراطية، والمراجعة، والاعتراف، وتحمّل مسؤولية الكارثة التي تسببت بها النازية، بينما أوروبا، بقيادة فرنسا التي كانت قبل سنوات تحت الاحتلال الألماني، اختارت طريق المصالحة والشراكة.

قال المستشار الألماني الأسبق فيلي برانت، في أحد خطاباته المؤثرة:

من يريد أن يصنع السلام، يجب أن يتحدث مع أعدائه، لا أصدقائه”. 

وفي 1989، حين سقط جدار برلين، لم تسقط فقط كتل من الخرسانة، بل سقطت أفكار الكراهية والانقسام، وتمّت إعادة توحيد ألمانيا بشجاعة سياسية قلّ نظيرها في التاريخ المعاصر.

من النكبة إلى يومنا هذا: ألم لا يُشفى بالصمت

الفلسطينيون يعرفون النكبة كما يعرف الألمان الهولوكوست.

كل شعبٍ له جرحه، وكل جرحٍ له ذاكرته، لكن لا يمكن للذاكرة أن تكون سجنًا أبديًا. النكبة الفلسطينية لم تكن فقط طردًا جماعيًا، بل اقتلاعًا من الجذور، وتغييبًا للهوية.

لكن هل يمكن لفلسطين أن تنتظر سبعين عامًا أخرى؟
هل يمكن للمنطقة أن تبقى رهينة لخطابات التطرف والتكفير؟

هل سنظلّ نقيس الألم بالأرقام، ونبرر القتل بالخرائط؟

لا، فالحل لا يكون في الاستئصال، بل في الاعتراف المتبادل.
السلام الحقيقي يبدأ من قلب المعاناة.

قال الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا:

إذا أردت أن تصنع السلام مع عدوك، فعليك أن تعمل معه. حينها يصبح شريكك”. 

على حماس أن تعي، وعلى إسرائيل أن تتراجع

ليست هناك مقاومة نبيلة تُبنى على دم الأبرياء. ولا توجد دولة ديمقراطية حقيقية تمارس نظام فصل عنصري داخل أراضيها.

حماس، بعنفها وسياستها، أهدرت الكثير من إمكانيات القضية الفلسطينية.

وإسرائيل، بسلوكها القمعي، تقوّض كل فرصة حقيقية للسلام، عبر التوسع الاستيطاني، وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية.

لكن كل هذا يجب ألا ينسينا أن هناك من الطرفين من يريد السلام، من يناضل لأجل العدالة، من يرفض أن يكون جندياً في جيش الحقد.

الأمل موجود، لكنه ضعيف، ويحتاج إلى من يرويه لا من يخنقه.

أوروبا شاهدة على المعجزة: لماذا لا نكررها؟

من الاتحاد الأوروبي إلى مجلس الشراكة، أثبتت أوروبا أن عدو الأمس يمكن أن يكون شريك الغد.

من ألمانيا وفرنسا، إلى إيطاليا والنمسا، بل وحتى بريطانيا بعد “البريكست”، كل هذه الدول كانت غارقة في دماء القرن العشرين.

لكن اليوم، أصبحت أوروبا أكبر سوق تجارية موحدة، ليس لأنهم أحبوا بعضهم فجأة، بل لأنهم وضعوا المصلحة العامة فوق الثأر التاريخي.

لماذا لا نستفيد من هذا الدرس؟

لماذا لا نبني “شرق أوسط جديد” على أساس العدالة والاحترام المتبادل، لا على فوهة البنادق وصفقات السلاح؟

ترامب والسلام الإجباري

ربما لا يُعَدّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رجل سلام بالمعنى التقليدي، لكنه فرض هذه المرة على الطرفين لحظة تفكير.

قبول حماس ببعض بنود الخطة، واستعدادها للإفراج عن الرهائن – وإن جاء تحت الضغط – هو خطوة لا ينبغي الاستخفاف بها.

كما أن مطالبة ترامب لإسرائيل بوقف الهجوم تعكس تحولًا في ميزان القوة.

الفرصة قد تكون ضيقة، لكنها حقيقية.

 وفي الختام: لدينا جميعًا حلم

لديّ حلم، أن يصبح هذا الشرق موطنًا للتعددية لا للطائفية.

أن تمشي الطفلة الفلسطينية جنبًا إلى جنب مع الطفل الإسرائيلي، لا في معسكرات اللجوء ولا في السجون، بل في المدارس، في ساحات اللعب، في مسارح الحياة.

ألا يكون التاريخ سيفًا مرفوعًا فوق الرقاب، بل جسرًا للتفاهم والتسامح.

قال الشاعر محمود درويش: نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا”. 

فلنعطِ الحياة فرصة، ولنعطِ الإنسان قيمة، ولنعطِ ذاكرتنا فرصة لتكون خزانًا للحكمة، لا وقودًا للدمار.

وما التوفيق إلا من عند الله.

https://anbaaexpress.ma/pfu1h

محمد بدوي مصطفى

كاتب وباحث سوداني مقيم في ألمانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى