عبدالله فضّول
تختلف عقول الناس، وتتنوّع طبائعهم، وتتباين رؤاهم كما تتباين بصماتهم. بل يختلف حتى أفراد الأسرة الواحدة، رغم اشتراكهم في الدم والذاكرة والمكان. وتختلف الشعوب، في ثقافاتها، وتاريخها، وحتى في طريقة حزنها وفرحها.
بل إن الشعب الواحد، في ذاته، تتعدد فيه الألوان، وتتناقض فيه الأصوات، وتتشابك فيه المزاجات. ومع ذلك، لا يمنع هذا التنوّع أن يكون لكل شعبٍ مزاجٌ عام، نغمةٌ خفية تسري في روحه، وتظهر في أدبه، وموسيقاه، وطريقة حديثه، وحتى في صمته.
من المسؤول عن هذا المزاج، الذي لا يمكن أن تخطئه العين، ولا تنكره الأذن، ولا تغفله الروح؟
هل هو التاريخ، بما فيه من انتصارات وانكسارات، ومن سردياتٍ تُروى وتُنسى؟
أم الجغرافيا، بما تفرضه من عزلة أو انفتاح، من بحرٍ يهمس أو صحراء تصرخ؟
أم أن المزاج الجمعي يولد من تراكم التفاصيل الصغيرة: من نبرة الأم، وملامح السوق، ورائحة الخبز، وصوت المآذن، وضحكة العابرين؟
ربما هو كل ذلك… وربما هو شيءٌ لا يُرى، لكنه يسكن الوجوه، ويُعيد تشكيلها على مهل.
فمثلًا، في شعوب البحر، حيث الموج لا يهدأ، والريح لا تستقر، ترى الناس حاديي الطبع، سريعي الانفعال، كأنهم أبناء العاصفة، يتكلمون بصوتٍ مرتفع، ويعيشون اللحظة كما لو أنها الأخيرة.
بينما عند شعوب الجبال، حيث الصمت يعلو، والبرد يُعلّم التروّي، تجدهم أكثر هدوءًا، لا يستعجلون الغضب، ولا يرفعون الصوت إلا حين يستدعي الأمر. كأنهم أبناء الصخر، يزنون الكلمات كما يزنون خطواتهم على المنحدرات.
ورغم اختلاف الأفراد، يبقى المزاج الجمعي كخيطٍ خفيّ، يربطهم بطريقة لا تُفسّر، لكنه يُرى في نظراتهم، ويُسمع في نبرة حديثهم، ويُحسّ في طريقة انتظارهم للغد.
والحقيقة أيضًا أن هذا المزاج الجمعي لا يظل حبيس الطباع، بل يؤثر بقوة، كما رأينا، على العلاقات المختلفة، خصوصًا الاجتماعية منها. فهو الذي يحدد كيف يعبّر الناس عن محبتهم، كيف يخاصمون، كيف يتصالحون، وكيف يختارون الصمت أو المواجهة.
إلا أن تأثيره على الفن يبدو أكثر عمقًا، وأكثر دهشة. فالفن، في جوهره، هو مرآة الروح الجمعية، يتلوّن بلون المزاج، ويتنفس من هوائه.
عند الشعوب الحادة المزاج، ترى الفن صاخبًا، مليئًا بالحركة والألوان الجريئة، والموسيقى التي تطرق القلب قبل الأذن. أما عند الشعوب الهادئة، فالفن يميل إلى التأمل، وإلى التفاصيل الدقيقة، وكذا الألوان التي تهمس ولا تصرخ.
هكذا، يصبح المزاج الجمعي ليس مجرد طبع، بل لغة كاملة، تُكتب بها القصائد، وتُرسم بها اللوحات، وتُغنّى بها الأحلام.
ما أحوجنا أن نفهم، أن الإنسان “حجر وطوب”؛ مزيج من التناقضات،ومن العقل الذي يحلل، والعاطفة التي تفيض. وأن عقول البشر مختلفةو متنوّعة، لا تتشابه إلا في قدرتها على رؤية الأشياء من زوايا متباينة.
لكن المزاج… يبقى كعلامة مشتركة، كظلٍ يسكن الجماعة، ويمنحها طابعًا خاصًا لا يُخطئه من عاش بينهم.
وكل هذا لنفهم أن الجمال لا يولد من التماثل، بل من التعدد الذي لا يصطدم، ومن التنوع الذي لا يتنافر، ومن الاختلاف الذي يثري، ويمنح الحياة طيفًا أوسع من أن يُختزل في لونٍ واحد.
* كاتب وقاص للقصة القصيرة جدا