قدّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه مجددًا في صورة “صانع السلام” عقب نجاح وساطته في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، تضمن مبادلة رهائن إسرائيليين بمعتقلين فلسطينيين، غير أن هذا الإنجاز الذي روّج له البيت الأبيض كنصر دبلوماسي كبير، يبدو في نظر المراقبين هدنة سياسية أكثر منها تسوية حقيقية، إذ لا تزال بنود الاتفاق غامضة ومهددة بالانهيار في أي لحظة.
ترامب الذي يسعى لاستعادة وهجه الدولي قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، حاول من خلال هذا الاتفاق تثبيت صورته كزعيم قادر على إنهاء حرب استنزفت الجميع، لكن التحدي الأكبر – بحسب خبراء السياسة الأميركية – لا يكمن في التوقيع، بل في إلزام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتنفيذ بنود الاتفاق.
فالرجل الذي اشتهر بعناده السياسي ومراوغاته التكتيكية، يتعامل مع كل مبادرة سلام كأداة داخلية لإطالة أمد وجوده في السلطة، خاصة مع اقتراب معاركه القضائية والانتخابية.
تاريخ العلاقة بين نتنياهو والرؤساء الأميركيين، من بيل كلينتون إلى جو بايدن، يثبت أن “إقناع” رئيس الحكومة الإسرائيلية باتخاذ خطوات حقيقية نحو السلام أشبه بمهمة مستحيلة، إذ لطالما استخدم لغة مزدوجة تجمع بين القبول الدبلوماسي والممانعة الميدانية.
حتى إدارة ترامب السابقة، التي كانت الأقرب إلى تل أبيب في العقود الأخيرة، أبدت استياءها من بعض العمليات العسكرية الإسرائيلية التي كانت تُفشل الجهود السياسية في مهدها.
لكن هذه المرة، تمكن ترامب من تحريك توازنات معقدة: أقنع نتنياهو بالقبول بخطة من عشرين بندًا لإنهاء الحرب في غزة، وحشد دعمًا إقليميًا من دول عربية وإسلامية للضغط على حماس للإفراج عن الرهائن، إلا أن جوهر الخطة ما زال محل تجاذب، خصوصًا في القضايا الحساسة المتعلقة بمستقبل حركة حماس ونزع سلاحها، ودورها المحتمل في إدارة القطاع بعد الحرب.
حماس من جانبها أعلنت قبولها المبدئي بالخطة، لكنها تجاهلت بنودًا تمس بنفوذها الأمني والسياسي، معتبرة أن أي ترتيبات مستقبلية يجب أن تمر عبر توافق فلسطيني داخلي، لا عبر تفاهمات مفروضة من الخارج. ويعتقد محللون أن غموض الوثيقة كان مقصودًا لتسهيل التوقيع، لكنه يجعل التنفيذ لاحقًا بالغ التعقيد.
في المقابل، تواجه الخطة معارضة شرسة داخل إسرائيل نفسها، إذ هاجمها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، مهددين بالانسحاب من الائتلاف الحكومي.
ويرى مراقبون أن نتنياهو، المحاصر بين ضغوط ترامب الداخلية ومعارضيه اليمينيين، قد يلجأ إلى المناورة السياسية لكسب الوقت، خصوصًا أنه يستعد لانتخابات قد تحدد مصيره السياسي، مما يهدد استقرار الاتفاق في مراحله الأولى.
في خلفية المشهد، يدرك ترامب أنه يمتلك ورقة تأثير قوية على نتنياهو، بحكم ما قدمه له خلال ولايته الأولى: الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبسيادتها على الجولان، وهي قرارات جعلته يتمتع بشعبية تفوق شعبية نتنياهو بين الإسرائيليين.
لكن ترامب، الذي يسعى الآن لتسويق نفسه كـ”رجل دولة عالمي”، بدا أكثر حزمًا مع حليفه القديم، إذ أجبره – وفق تقارير دبلوماسية – على الاعتذار لأمير قطر بعد غارة خاطئة في الدوحة، ثم على التوقيع على الخطة رغم اعتراضاته.
ومع ذلك، يبقى اليمين الإسرائيلي المتشدد العقبة الأكبر أمام أي تسوية دائمة، إذ يرفض قادته أي اتفاق لا يؤدي إلى القضاء التام على حماس، ويعارضون بشدة أي إشارة إلى إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقبلًا.
هذا الرفض المتنامي لا يهدد فقط استقرار الحكومة الإسرائيلية، بل يضع أيضًا الحلفاء العرب في موقف حرج، إذ قد يتراجع الدعم الإقليمي للاتفاق إن بدا بلا أفق سياسي للفلسطينيين، ما سيعيد الأزمة إلى نقطة الصفر.
في النهاية، وبينما يحتفل ترامب بما يسميه “الانتصار الدبلوماسي”، تبدو الحقائق على الأرض أكثر تعقيدًا..اتفاق هشّ ولد من رحم التوازنات اللحظية، وواقع سياسي متفجر داخل إسرائيل، وانقسام فلسطيني لا يزال بلا حلّ.
وهكذا، قد يتحول “سلام ترامب” إلى هدنة مؤقتة بلا مضمون، تُضاف إلى سلسلة المبادرات الأميركية التي أخفقت في معالجة جوهر الصراع، لتؤكد مرة أخرى أن السلام في الشرق الأوسط لا يُصنع بالتوقيع على الورق، بل بتغيير جذور المعادلة السياسية التي ما زالت أسيرة القوة والنجاة الفردية لا منطق العدالة والتعايش.