كشفت وسائل إعلام عبرية أن جهاز المخابرات الخارجية الإسرائيلي “الموساد” أصدر قرارًا بإلغاء مؤتمر “حاخامات أوروبا” الذي كان من المقرر انعقاده في العاصمة الأذربيجانية باكو مطلع نوفمبر المقبل، بعد ورود تحذيرات أمنية متعلقة بقرب موقع الحدث من الحدود الإيرانية، في مؤشر على تصاعد المخاوف الأمنية داخل إسرائيل وتراجع قدرتها على التحرك الخارجي بحرية منذ اندلاع الحرب على غزة.
ووفقًا للتقارير، فقد وجّهت وحدة الحماية التابعة للموساد أوامر مباشرة بعدم سفر عدد من الشخصيات الرسمية والدينية الإسرائيلية، من بينهم وزراء في حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية ومسؤولون حاخاميون بارزون، وذلك بعد تقديرات أمنية اعتبرت أن إقامة الحدث في منطقة حساسة جيوسياسيًا قد تعرّض المشاركين لخطر مباشر.
المؤتمر، الذي كان يُفترض أن يُقام احتفالًا بالذكرى السبعين لتأسيس مجلس حاخامات أوروبا، كان سيجمع شخصيات دينية وسياسية من القارة الأوروبية، إلى جانب الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، وممثلين عن المفوضية الأوروبية، ومدير مؤتمر ميونيخ للأمن بنديكت فرانك.
كما كانت ستشارك شخصيات إسرائيلية بارزة، أبرزها وزير الشتات عميحاي شيكلي، ووزير التراث عميحاي إلياهو، ووزير الخدمات الدينية السابق ميخائيل مالكيلي.
وتضمن جدول أعمال المؤتمر محاور ذات طابع “تواصلي وديني”، من بينها العهود الإبراهيمية، والحوار بين الأديان، ومكافحة معاداة السامية، إلى جانب نقاش حول العلاقات بين إسرائيل ويهود الشتات، وهو ما كان يهدف إلى تلميع صورة تل أبيب في المحافل الدينية الأوروبية في لحظة سياسية معقدة.
إلا أن إلغاء المؤتمر يكشف الوجه الآخر للأزمة التي تعيشها إسرائيل على الصعيدين الدبلوماسي والديني، حيث لم تعد عزلة تل أبيب مقتصرة على المجال السياسي والعسكري، بل امتدت إلى المنابر التي كانت تستخدمها كأدوات “قوة ناعمة” لتبرير ممارساتها، خاصة في ظل تصاعد موجة الغضب العالمي من الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023.
فمنذ اندلاع الحرب، تدهورت صورة إسرائيل بشكل غير مسبوق في الرأي العام الدولي، بعد أن تحولت عمليتها العسكرية إلى حرب إبادة موثقة، شملت القتل الممنهج، والتجويع، والتهجير القسري، وتدمير البنية التحتية المدنية. ووفق أحدث التقديرات، تجاوز عدد الشهداء والجرحى الفلسطينيين 238 ألفًا، معظمهم من الأطفال والنساء، فيما لا يزال أكثر من 11 ألف مفقود تحت الأنقاض، في ظل مجاعة خانقة تضرب القطاع وتشلّ حياة سكانه بالكامل.
ورغم إدانات الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، واصلت إسرائيل عدوانها، مدعومة من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، غير أن هذا الدعم بدأ يتآكل تدريجيًا أمام الضغط الشعبي والسياسي المتصاعد في الغرب، حيث ألغت عدة دول اتفاقيات تعاون، وجمّدت زيارات رسمية، وأعلنت مؤسسات أكاديمية وثقافية انسحابها من فعاليات تشارك فيها تل أبيب، في انعكاس مباشر لتراجع نفوذها الناعم.
ويأتي إلغاء مؤتمر باكو في هذا السياق كإشارة رمزية عميقة الدلالة، إذ يُظهر أن إسرائيل باتت تخسر حتى ساحات الحوار الديني التي طالما استخدمتها كغطاء للتقارب السياسي مع أوروبا، خصوصًا بعد أن تحوّل خطابها حول “السلام الإبراهيمي” إلى مادة مشكوك فيها أخلاقيًا أمام مشاهد الدمار والمجازر اليومية في غزة.
وفي موازاة هذه التطورات، شهدت الأيام الأخيرة تحريكًا لمسار تفاوضي هش بين الاحتلال وحركة “حماس”، بوساطة مصرية وقطرية وتركية وبرعاية أمريكية.
وأعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في التاسع من أكتوبر الجاري عن اتفاق مرحلي بين الطرفين، يقضي بإطلاق سراح أسرى لدى “حماس” مقابل خطوات إنسانية محدودة داخل القطاع، وهو اتفاق ما زال يواجه عراقيل عديدة في التنفيذ.
وبحسب المصادر الإسرائيلية، فقد أفرجت الحركة في 13 أكتوبر عن 20 أسيرًا إسرائيليًا أحياء، بينما سُلّمت أربع جثامين من أصل 28 مفقودًا يُعتقد أنهم قُتلوا خلال المعارك.
وتشمل المرحلة الثانية من الاتفاق إنشاء “لجنة الإسناد المجتمعي” لتسيير الشؤون الإنسانية ومتابعة عملية إعادة الإعمار، في مسعى لإدارة الوضع داخل القطاع بآلية مؤقتة تُجنب الانفجار الكامل.
تحليلا ووفق مراقبون في الشأن العبري يمكن القول إن قرار الموساد بإلغاء مؤتمر “حاخامات أوروبا” ليس إجراءً أمنيًا بحتًا، بل تعبير عن تحوّل أعمق في موازين القوة الرمزية التي كانت إسرائيل تراهن عليها لسنوات.
فحين تصبح المؤتمرات الدينية التي وُجدت لترويج “التعايش” ، عُرضة للتهديد الأمني والسياسي، فإن ذلك يعني أن صورة إسرائيل كدولة “منفتحة” تتهاوى حتى في فضاء حلفائها الطبيعيين.
باكو التي كانت تعد منصة للتطبيع الديني والسياسي، تحوّلت هذه المرة إلى مرآة تعكس عزلة إسرائيل الأخلاقية. إنها لحظة فارقة تكشف أن القوة العسكرية مهما بلغت، لا يمكنها أن تُحصّن دولة تتآكل من الداخل بفعل عنفها، ولا أن تمنحها شرعية في عالم بدأ يعيد تعريف معنى العدالة بعد غزة.




