أفريقياسياسة
أخر الأخبار

سيطرة الدعم السريع على الفاشر.. بداية التقسيم الفعلي للسودان أم سقوط آخر أوراق الجيش؟

ما حدث في الفاشر ليس انتصاراً لأحد، بل هزيمة لروح السودان نفسه. فحين يتفكك النسيج الوطني إلى كانتونات إثنية ومناطق نفوذ، يصبح السؤال الحقيقي.. هل يمكن لدولةٍ وُلدت من رحم الحرب أن تبقى موحّدة؟

يشهد السودان لحظة مفصلية تنذر بتغيير جذري في خريطة السلطة، بعدما أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، عقب حصار دام قرابة ثمانية عشر شهراً، في تطور يصفه مراقبون بأنه نقطة تحول قد تعيد البلاد إلى شبح الانقسام الذي عاشته عام 2011 مع انفصال الجنوب.

السيطرة على الفاشر، التي كانت آخر معقل كبير للجيش في دارفور، تمثل تحوّلاً استراتيجياً، إذ باتت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي” تُحكم قبضتها على الإقليم بأكمله، في حين يحتفظ الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان بسيطرته على المناطق الواقعة على امتداد نهر النيل والبحر الأحمر في الشمال والشرق والوسط.

هذا التقسيم الجغرافي يرسّخ واقع “بلدين داخل بلد واحد”، حيث سلطة في بورتسودان وأخرى في دارفور، الأمر الذي دفع ألان بوسويل، مدير مشروع القرن الإفريقي في مجموعة الأزمات الدولية، إلى القول إن “السودان أصبح فعلياً بلداً منقسماً، وكل يوم يمرّ يجعل إعادة توحيده أكثر صعوبة”.

تُعدّ الفاشر موقعاً رمزياً وتاريخياً، فهي العاصمة السابقة لسلطنة دارفور ومركز ثقل إنساني يضم أكثر من ربع مليون مدني محاصرين. ومنذ بدء الهجمات الأخيرة، تحدثت منظمات حقوقية عن مجازر وتطهير عرقي استهدفت مجموعات غير عربية، في تكرار مأساوي لما عاشه الإقليم مطلع الألفية.

وأعاد هذا المشهد إلى الأذهان المجازر التي ارتكبتها ميليشيات الجنجويد عامي 2003 و2004، والتي انبثقت عنها قوات الدعم السريع الحالية، وقد خلّفت حينها نحو 300 ألف قتيل، قبل أن يُمنح حميدتي صفة رسمية في عهد عمر البشير الذي استخدمه لقمع التمرد في الإقليم.

اليوم، يُعيد التاريخ نفسه ولكن بوجوه جديدة، فالميليشيا التي قاتلت بالأمس باسم النظام صارت الآن كياناً مستقلاً يملك موارده وتسليحه وإدارته الخاصة. وخلال العام الجاري، أنشأت قوات الدعم السريع حكومة موازية في غرب السودان، في تحدٍّ مباشر لسلطة الجيش في الشرق. ومع إحكام قبضتها على دارفور، أصبحت تمتلك أوراق ضغط قوية في أي مفاوضات مقبلة، سواء برعاية إقليمية أو دولية.

المشهد لا ينفصل عن لعبة النفوذ الإقليمي. تقارير الأمم المتحدة أشارت إلى تلقي الدعم السريع طائرات مسيّرة وأسلحة من الإمارات، بينما يحظى الجيش بدعم من مصر والسعودية وإيران وتركيا.

وبذلك تحوّل السودان إلى ساحة تنافس جيوسياسي مفتوح، يختبر توازن القوى بين محورين إقليميين، أحدهما يسعى لتثبيت سلطة عسكرية مركزية، والآخر يدعم قوى محلية أكثر مرونة. وفي ظل غياب حل سياسي شامل، تبدو البلاد متجهة نحو “لبننة” داخلية، حيث تتقاسم الفصائل النفوذ دون أن تملك شرعية موحدة.

تحذيرات الأمم المتحدة من “الفظائع ذات الدوافع العرقية” في الفاشر تزيد المخاوف من انزلاق البلاد إلى حرب إبادة جديدة. فقد وثّقت منظمات مراقبة وقوع مجازر واسعة في كردفان ودارفور، مع تقارير عن استخدام الجوع والحصار كسلاح ضد المدنيين.

ويعيش مئات الآلاف على فتات المساعدات، بعد أن أحكمت قوات الدعم السريع الطوق حول المدينة، مانعة الإمدادات الغذائية والطبية من الدخول.

يرى محللون أن سقوط الفاشر ليس مجرد انتصار عسكري، بل تحوّل سياسي عميق يهدد وحدة السودان ككيان جغرافي وتاريخي. فالمشهد الحالي يعيد إنتاج ما حدث قبيل انفصال الجنوب، حين فشلت الدولة المركزية في إدارة التنوع العرقي والسياسي، وانهارت تحت ثقل صراعاتها الداخلية.

ومع طول أمد الحرب، يزداد ترسخ واقع الانقسام بين شرقٍ عسكري وغربٍ ميليشياوي، في حين تغيب أي رؤية دولية واقعية لإنهاء النزاع.

إنّ ما يجري اليوم في دارفور ليس مجرد معركة على الأرض، بل اختبار حقيقي لفكرة الدولة السودانية نفسها.

فحين تتحول الميليشيا إلى سلطة، وتُختزل العدالة في محاكمات رمزية كما حدث مع “علي كوشيب” في لاهاي، فإنّ الرسالة التي تصل إلى الشارع السوداني هي أن القانون لا يُطبَّق إلا على الضعفاء.

ورغم محاولات واشنطن وشركائها الإقليميين إعادة إطلاق مسار التفاوض، إلا أن غياب الإرادة السياسية لدى الطرفين، وارتباطهما بتحالفات خارجية، يجعل فرص السلام ضئيلة. وربما تكون سيطرة الدعم السريع على الفاشر إعلاناً غير رسمي عن ولادة “سودانين” على غرار ما حدث في 2011، أحدهما في الشرق بواجهة مؤسسية، والآخر في الغرب بحكم الميليشيا.

ما حدث في الفاشر ليس انتصاراً لأحد، بل هزيمة لروح السودان نفسه. فحين يتفكك النسيج الوطني إلى كانتونات إثنية ومناطق نفوذ، يصبح السؤال الحقيقي.. هل يمكن لدولةٍ وُلدت من رحم الحرب أن تبقى موحّدة؟

يشير هذا التطور إلى أن الصراع في السودان تجاوز كونه نزاعاً عسكرياً على السلطة، ليصبح صراعاً على هوية الدولة وحدودها. السيطرة على الفاشر تمثل لحظة انهيار رمزي للسلطة المركزية، وتكشف عن فشل متكرر في بناء مؤسسات وطنية جامعة.

وإذا استمر هذا المسار، فإن التقسيم لن يكون احتمالاً مستقبلياً، بل واقعاً يفرض نفسه تدريجياً تحت أنقاض المدن المنهارة.

https://anbaaexpress.ma/0poiz

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى