آراء
أخر الأخبار

ساعة بين الأحداث.. من حراك “زاي” غربا إلى اتفاق وقف النّار شرقا

هؤلاء جيل لم ينبت في واد غير ذي زرع، بل هو يحمل ميراث كل هذا التّاريخ، الجميع فكّر مثل جيل زاي، فلِمَ اللجوء إلى التصنيف القطائعي، علما أن زمن القطائع تاريخانيا يُعد بالحقب الطُّولى وليس بالسنوات القريبة،..

– غالبا ما يتفرع عن الحدث بوصفه يحمل طبائع تعقيد الواقع، ظاهرة قلّما تمثُل أمام الوعي كحقيقة عارية. هذا التفريع يستنزف النّاظر في عملية تهريب قصوى لجوهر الحدث. أمران كان لتودوروف الفضل في إبرازهما كعامل في جعل التواصل مستحيلا: الدوغمائية والنسبوية.

والحقيقة إن شئنا أن نختزلهما في مفهوم واحد، فلنقل إنها مغالطة “استحالة العلم”. سميتها مغالطة، لأنّ المائز بين استحالة العلم كموقف معرفي، واستحالة العلم كلحظة انفلات من استحقاقات المعرفة، هو إرادة الإلتفاف على المعرفة.

– هؤلاء الشباب الذي يبدو للبعض أنهم ينتمون للحاضنة الرقمية، والذين انقذفوا في ميدان الاحتجاج ليسوا حالة فارقة كما تسعى إلى ذلك الغواية السوسيو-ميترية، لهم صلة بكل أسئلة الواقع الكلاسيكية.

إنّ المفارقة تكمن في أنّ من يخلع هذا التصنيف على جيل “زاي” هم ليسوا من نفس جيلهم، وهذا التصنيف على ما يسعى لإظهاره من البراءة والحياد، هو تصنيف ينتهي بالميز قد ينتهي إلى وضعية داروينية “ميتامورفوزية”، تتجاوز شروطهم الاجتماعية في محاولة لوضعهم في شروط بيولوجية للتفكير، وهو جزء من تحكّم الجيل السابق والأسبق، انقياد مفارق للجيل السابق.

فإن أصاب الشباب فهم طليعة التغيير، وإن فشلوا، فهم غير راشدين. هنا تكون التضحية البروميثيوسية بشباب نحمّلهم مهمّة التّاريخ كله، بل وأكثر من ذلك، نعيد إنتاج -من خلال هذا التصنيف “الزّاياني” – نسبة إلى الزّاي، فلا يذهب بك الخيال إلى خرق الحياد الأكسيولوجي – مفهوم القطيعة.

إن تجييل الحراكات الاجتماعية ضمن هذا التصنيف المطلق، يخفي التخوم، والفجوة الجيلية حيث هناك، في هذه الفجوة نعيش التقاطع بين الأجيال. باختصار، إنّنا نفكر مثلهم، نكبس على الزّر الرقمي نفسه، ربما نحن من عانينا من رهق الانتقال الرقمي وندرك عبقرية الفجوة.

هؤلاء جيل لم ينبت في واد غير ذي زرع، بل هو يحمل ميراث كل هذا التّاريخ، الجميع فكّر مثل جيل زاي، فلِمَ اللجوء إلى التصنيف القطائعي، علما أن زمن القطائع تاريخانيا يُعد بالحقب الطُّولى وليس بالسنوات القريبة، فضلا عن أنّ ما يمتاز به الهابتوس العربي هو توقف الزمن السوسيو ثقافي، هيمنة صنف الزمن البطيئ، وبالتالي هناك رغبة في تصنيف الحراك ضمن حتمية الجيل، سرنمة رقمية مفصولة عن التاريخ الاجتماعي. أتساءل: لماذا تستهوينا القطيعة؟ ففي نهاية المطاف تشرئبُّ أعناق الجيل السابق والأسبق لقطف الثمار وركوب الموج، ثمّ: يا موجة غنّي..

– على أساس التحرر من إطار التجييل، نجد فسحة لمقاربة أبعد مدى من هذا الحصر المنهجي. هناك رغبة في الاحتجاج تنتاب مجتمعا تغيرت قاعدته الهرمية، وأصبحت كمية الآدرينالين أكبر، فضلا عن التقاليد الاحتجاجية التي تراكمت، حتى أنها لم تعد تشكّل حدثا. ولعل الجديد هنا هو أنّ من نظرنا إليهم كجيل الضياع، جيل فقد هويته، أكد مرة أخرى أنه يخفي خلف ما يبدو شرودا، وعيا ممزوجا باللعب.

كانت الاحتجاجات تعتمد نظرية الألعاب، وكان الزمان، زماننا وزمانهم المُعاش، يتيح لعبة الديسكورد، حيث من بيئة الألعاب تنطلق الحكاية. لكن القيم الأبوية حاضرة، إنّهم جيل يقدم نفسه منافحا عن حقوق الآباء، جيل “مرضي”، حيث عنوان الصحة يتعلق بالآباء أكثر.

– من الطبيعي حين يهيج الشارع، تتسرب الفئات غير الموصولة بأهداف الاحتجاج. أولئك الذين لهم نظائر في كل العالم، حيث ما أن ينقطع الكهرباء حتى تبدأ حركة السطو على الملك العمومي والخاص. لا غنى عن المناعة، لتمييز الزيت عن الماء.

– ما كان يثيرني بل ويقرفني، هو التّأويل بالتمني، التّأويل بالكيد، ذلك الخطاب الإعلامي المتمرس على الخيال.

يجهل الإعلام الخارجي بُنيتنا، مزاجنا، طبيعتنا نقاشاتنا العمومية، تفاصيلنا التي يكمن فيها شيطان الخصوصية، أنّا لبعض الميديا العربية أن تعرف معنى إماءاتنا، لغتنا في الحب (يضاض) والجدية (أغاراس)، هذا التعقيد الذي يسم تجربتنا الطويلة بإخفاقاتها ومكتسباتها، هذا المزيج الذي وسم به بول باسكون الاجتماع القروي المغربي، أي ذلك التعايش بين الأنماط وبالتالي تندك فيه أجيال القيم والنّاس، هو يجري على سوسيولوجيا المدينة نفسها بعد التحول الداروييني الارتكاسي: ترييف المدينة، عادت المدينة إذن إلى الاجتماع المركب.

– السرعة التي تزحلقت عليها الصحافة الصفراء من الخارج، محكومة بالديماغوجية وافتعال أحكام قيمة على قاعدة فهم تبسيطي. المشكلة هي أن بعض الصحافة الصفراء العربية غير معنية بمصداقية ما تقدمه من مخرجات بروباغاندا تضليلية. إنّنا أمة تهرول حيث تجب الرَّوية، تتباطأ حيث يجب أن تسرع، إنها معضلة تقنية في جهاز التحكم بالسرعة.

– لكنه مهم جدا أن يدرك العالم أن المجتمع المغربي حيّ، وهو إذ يمارس حقه الديمقراطي في تدافع لا يخلوا من مآزق، فهو تدافع حيّ. مهم جدا أن يعدلوا عن تصوراتهم الخاطئة تجاه أسود الأطلس. فلقد تطاولت علينا حكايات من كل واد، وكأننا شعب مغلوب على أمره، في خطاب كيدي لا يخلو من تبسيط. الدرس الأول في الحراك هو أولا وقبل كل شيء: خذوا سرديتكم عن المغرب من أهله، وكفى مشيا بنميم.

– في تتبعي لشعارات الحراك الأخير، لم ألاحظ خروجا عن الموقف من نقد أداء حكومة تماطلت في ردم الفجوة بين مغرب نافع وآخر عميق. لقد أكدت بأنّ غياب التواصل ليس فقط ميزة لحكومة تهرب في الصمت، بل إن الدرس التواصلي الأهم، هو أنّ غياب التواصل قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار.

– بالمختصر المفيد، انتهى زمن فوبيا الاحتجاجات، وهذا مكتسب حقوقي تجاوزناه، والباقي تفاصيل.

– إذا كانت المسؤولية هي مسؤولية الجميع، فقد يكون الحدث محطة لتغيير الثقافة السياسية، تعزيز الحوار الاجتماعي، الكف عن اعتبار الشباب خارج المعادلة، بلى إنهم يقشعون جيدا، على قدر من الوعي السياسي يخولهم أن يقولوا كلمتهم أمام التاريخ، ذلك لأن الأحزاب السياسية بعزوفها عن مطلب التشبيب، لم تترك مجالا للشباب سوى التموجد خارج الإطار.

إن مسؤولية التأطير تبدأ بمسؤولية التشبيب ودمقرطة الأحزاب، لأنها باتت هي نفسها مرتعا للريع، للمحسوبية، للإقصاء، للفساد.

– بقدر ما يلفت الأنظار طريقة تدبير الصحافة الصفراء للحدث، يلفت الأنظار أيضا حالة النط بين الخطاب ونقيضه، تغيير المواقع والألوان، فضلا عن خلط اليابس بالأخضر. في التفاصيل يكمن “خنزب” آخر للمغالطة، لست في وارده الآن.

– هذا المغرب الذي لا زال يواجه قدره كجزيرة، بذات المضمون الذي ذهب إليه عبد الله العروي، أو تيراس، أو ابن خلدون، هو ليس جزيرة بالمفهوم الجيولوجي فحسب، بل جزيرة بالمفهوم السياسي. ولأنه كذلك، سقطت عند حدوده الطبيعية انكشارية الباب العالي في معركة وادي اللبن، غرق الأمبراطور البرتغالي سيباستيان في معركة وادي المخازن، و”زيد” zو” زيد”z “وزيد”z…

– قدرنا الجغرافي يفرض شكلا خاصا من التعقيد، يحتاج إلى رَوِيَّة، وهي شيء يصعب توفره في خطابنا العلمي اليوم بله الإعلامي.

تكتب حروفوشة إسبانية، إعلامية مصابة بداء المورو المزمن، سونيا مورينو(Sonia Moreno) كتاب: (MARRUECOS: EL VECINO INCOMODO)، أي (المغرب: الجار غير المريح)، وهي تسعى لتقديم كتابها يوم الأربعاء القادم في مدينة مليلية، ذلك الثغر الذي لا زال يسكن ذاكرة المغاربة، منذ احتلته إسبانيا عام 1497م. وهذا هو الرُّهاب المزمن من المورو، لأنّه لا ينسى.

لا غرابة إذن إذا قرأنا هذا الطقس الاستفزازي الدائم في وصايا إيزابيلاّ. إذا لم نقف عند هذه الذاكرة وتداعياتها، في شيء من علم النفس التّاريخي، فلن نقشع شيئا، وسنبقى جزيرة تخضع لسرديات غرائبية كجزيرة الوقواق.

– إن كنّا سنقرأ اتفاق وقف إطلاق النار في غزّ.ة والهدنة بمنطق المواثيق الدولية، فالأفضل أن نعود إلى قصيدة “وصية لا جيئ” للشاعر الشهيد هاشم الرفاعي (1935-1959):

سيحدثونك يا بني عن السلام

إياك أن تصغي إلى هذا الكلام

كالطفل يخدع بالمنى حتى ينام

لاسلم أويحلو عن الوجة الرغام

صدقتهم يوما فآوتني الخيام

وغدا طعامي من نوال المحسنين

يلقى إلي كل الجياع اللاجئين

فسلامهم مكر وأمنهم سراب

نشروا الدمار على بلادك والخراب

– لن نتحدث عن انتصار بمحصول يقابل محصول.

الانتصار نسبي يراعي عدم تكافؤ القوى وتنوع أنماطها، فبين احتلال ومقاومة يصبح الحساب خارج منطق القياس. تبدو كلفة الصمود عالية، لكن جوهر الحدث هو أن غزّة خطّت أسطورة صمود في تاريخ استثنائي.

لقد خرجت من تحت الأنقاذ ومن رماد التصفية. لا عليك، فحين تعود غزة، كل شيء قابل للولادة مجددا، فلا بدّ من محور جغرافي للتاريخ. المسألة تتجاوز تفاصيل اتفاق مرحلي، بل هي الوضعية المأساوية التي فرضها احتلال أظهر رغبته في الإبادة.

ما يزعج المحتل هو وضعية التموجد، الصمود، عدم الخضوع. هذا شعب يشهد له العالم أنّه آخر الأساطير عن الوفاء، هذا أكبر دليل بلغة المأساة والتضامن العالمي، بأنه جدير بالتحرر.

– هذه الملحمة خطّأت سلطة البروباغاندا، كم هي السرديات التي جاوزت غاياتها السياسية لتصبح مرضا. شيء مؤلم فقط، هو التكرار، هو إعادة إنتاج الهشاشة التفسيرية للأحداث.

في كل ميدان يوجد نصيب من الخطأ، والأهم هو كيف نتعلم من الخطأ، كيف نتحدث قليلا ونمسك بناصية الواقع، ذلك الواقع الهارب منّا منذ آثرنا الوفاء للضوضاء بدل الوفاء للعلم..

https://anbaaexpress.ma/g3azt

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى