هناك لحظات في حياتنا الثقافية نشعر فيها بأن العالم العربي يغرق في موجة من الضجيج والسطحية وكأن أصوات الكتب قد اختفت خلف صخب المؤثرين، وأصبح المحتوى الثقافي يقاس بعدد المتابعين والإعجابات، وليس بعمق الفكر أو قوة الكتابة لقد تحولت الثقافة التي كانت دومًا مرآة الفكر وصوت العقل إلى سلعة تروج في السوق الرقمي، وتوزع في أيدي من لا يفهمون سوى لغة الشهرة والزخارف السطحية، وفي العمق لا يمكن فصل هذا الواقع عن التحول الجوهري في آليات الإنتاج الثقافي..
فالثقافة كانت في جوهرها فعلا كتابيا، الكتابة هي الأصل والقراءة هي الجسر الذي يربط الفرد بالمعرفة ويمنحه القدرة على التفكير، النقدي المستقل، أما اليوم فالثقافة في العالم العربي تتعرض للتشويه عبر مناهج جديدة لم يعرفها المجتمع من قبل ثقافة السماع فيديو قصير هنا منشور هناك وصوت مؤثر يرتفع فوق كل صوت آخر ليصبح هو الحكم الفعلي على ما هو “ثقافي” أو “غير ثقافي”..
إننا أمام أزمة حقيقية، ثقافة تختصر إلى شعارات وألوان وصور وتصبح أدوات للترفيه والتسلية، بدل أن تكون أدوات للفكر والإدراك، المؤثرون بأعداد متابعينهم الضخمة صاروا الوكلاء الفعليون للثقافة فهم يحددون ما ينظر إليه ويتداول وما يهمش وينسى.. وهنا يظهر الفرق الجوهري بين “السلطة الثقافية الحقيقية” و”السلطة الرقمية” الأولى تقوم على جدلية الأفكار ونضج العقل والثانية تقوم على صدى الصوت وعدد المشاهدات لكن لماذا يحدث هذا الإجابة لا تكمن فقط في التكنولوجيا، بل في تغييب الفكر النقدي عن المجتمعات العربية منذ عقود حينما يصبح التعليم حشوًا معرفيا وتتترك العقول بلا أدوات تحليل وتفكير يتحول أي محتوى إلى مادة جاهزة للاستهلاك السطحي.
وهنا تتجلى خطورة ثقافة السماع، فهي لا تنشئ قراء بل مستمعين سلبيين جاهزين لقبول أي فكرة دون تمحيص أو نقاش، هذا التحول له تأثيرات عميقة على المجتمع، فالكتاب الذي كان يوما رفيق الفكرة والمعرفة، يستبدل بمنشورات قصيرة وفيديوهات سريعة، الكتابة تمحى تدريجيًا من معادلة الثقافة ويحل مكانها “الظهور الإعلامي” و”الشهرة الفارغة”، فالثقافة بهذا الشكل لم تعد وسيلة لفهم العالم بل وسيلة للترفيه وأحيانا أداة لتشويه الحقائق وترويج الأفكار السطحية، الأدهى من ذلك أن هذا التشويه أصبح مدعوما بصيغة جديدة من السلطة الاجتماعية “قوة الإعجاب..”
فالمجتمع العربي الذي لطالما كان يقدر الفعل الثقافي العميق صار اليوم يكرم من يملكون القدرة على استقطاب الانتباه، مهما كانت الرسائل التي يقدمونها سطحية أو فارغة، المؤثر في هذه الحالة ليس مجرد فرد يشارك محتوى بل صار مرجعًا ثقافيا بحد ذاته، وهو ما لم يحدث في تاريخنا الثقافي القديم الأمثلة على هذا التحول كثيرة من الأدب إلى الفنون مرورا بالموسيقى والصحافة كثير من الأعمال التي تحمل عمقا فكريا أو جمالا أدبيا تهمش، بينما تكتسب منشورات قصيرة عن الحياة اليومية أو الموضة شهرة واسعة المجتمع أو جمهور المتابعين صار يستهلك الثقافة وفق قواعد السوق الرقمي، السرعة الترفيه وجذب الانتباه، وليس العمق أو النقد، إضافة لذلك فإن ثقافة السماع تعزز الطابع الفرداني للمعرفة في الماضي كان النقاش حول الأفكار قائمًا على التفاعل الكتابي على الحوار المكتوب بين الأجيال على النقد العميق الذي يتجاوز حدود الشخص والفكرة..
اليوم أصبح الفكر مرتبطا مباشرة بالشخصية العامة للمؤثر وليس بالقيمة الفكرية للمحتوى، أي أن الفكرة لم تعد هي المهمة بل من يقولها وكيف يقدمها، وهذا يعكس تحولا خطيرا في طبيعة الثقافة نفسها من كونها فضاءً للأفكار إلى كونها منصة للصور والصوت والشخصيات.. وعلى الرغم من هذا يبقى هناك أمل فالثقافة الكتابية لم تمت بعد لكنها تحتاج إلى حراسها الحقيقيين القراء والمفكرين والمبدعين الذين يرفضون أن تتحول المعرفة إلى مجرد محتوى سريع الاستهلاكهؤلاء الأشخاص هم الذين يستطيعون إعادة التوازن عن طريق دعم الكتابة والنشر والقراءة العميقة وإعادة الاعتبار لما هو أصيل في الثقافة..
التحدي الأساسي ليس التكنولوجيا، بل وعي المجتمع التكنولوجيا ليست الشر في حد ذاتها، بل أداة لكن حين تتحكم في المجتمع، عادات الاستهلاك السطحي تصبح وسيلة لتفكيك الثقافة وتحويلها إلى مجرد ضوضاء الحل إذن يكمن في تثقيف العقول وتعليم الأجيال كيفية التفكير النقدي وكيفية التمييز بين ما يستحق القراءة العميقة وما هو مجرد ترفيه سريع، هذا لا يعني رفض كل ما هو رقمي أو جديد، بل يعني إدراك الفرق بين ما يضيف قيمة حقيقية للفكر، وما هو مجرد ترفيه سريع الثقافة الحقيقية لا تتأتى من كمية الإعجابات بل من قدرة النص أو الفكرة على البقاء في الوعي على إحداث التأمل على تحريك الفكر والتساؤل..
إذا فقدنا هذا نفقد شيئا أعظم من مجرد الكتب نفقد القدرة على بناء مجتمع واع ومثقف وقادر على مواجهة تحديات العصر، لذلك على المثقف العربي اليوم أن يكون صريحا وواضحا، التشويه الحالي للثقافة ليس صدفة بل نتاج تراكمات اجتماعية وفكرية واقتصادية، على المثقف أن يرفض الاستسلام لموجات الضوضاء وأن يعمل على بناء منصات حقيقية للثقافة، منصات تعيد الكتابة إلى مركز الاهتمام، وتعيد الفكر النقدي إلى قلب المجتمع هذه مهمة تتطلب شجاعة لأنها تتعارض مع التيار السائد الذي يقدس الشهرة والمظهر على حساب المضمون والعمق، إحدى الطرق الفعالة لمواجهة هذا التشويه هي التركيز على التعليم المبني على القراءة والكتابة المدارس والجامعات هي المكان الذي يمكن أن يبدأ فيه التغيير الحقيقي تعليم الطلاب كيفية تحليل النصوص كيفية كتابة أفكارهم بطريقة منظمة وكيفية التفكير النقدي بدل الاكتفاء بالاستهلاك السطحي للمعلومات..
هذه المهارات الأساسية هي التي تصنع قراء حقيقيين وليس مجرد مستمعين سلبيين، كذلك على الإعلام والثقافة العامة أن تعيد التفكير في معاييرها الاحتفاء بالمؤثرين أمر طبيعي لكن يجب أن يقترن بالمعايير الحقيقية للثقافة والفكر المؤثر الذي يروج للأفكار السطحية لا يمكن أن يكون مرجعًا ثقافيا، يجب وضع إطار واضح يميز بين الشهرة المؤقتة والجدية الفكرية هذا الفصل بين الظهور الإعلامي والسلطة الثقافية هو شرط أساسي لإعادة الاعتبار للثقافة..
ما نحتاج إليه ليس مجرد احتجاج على التشويه الثقافي، بل خطة واعية لإعادة الثقافة إلى مكانتها الحقيقية الكتابة والقراءة النقدية هما قلب هذا الجهد، وهما الوسيلة الوحيدة لمواجهة موجات السطحية والإيجابية المزيفة إذا نجحنا في ذلك سنكون قد حافظنا على جزء أساسي من هويتنا، وعلى قدرة المجتمع العربي على التفكير على النقد وعلى الإبداع الحقيقي..
العالم العربي يعيش اليوم لحظة حرجة لحظة يمكن أن تتحول فيها الثقافة إلى ضوضاء بلا معنى أو أن تعود لتكون قوة فكرية حقيقية الخيار بيدنا جميعا بين الانصياع للسطحية والانغماس في عالم المؤثرين، وبين بناء جسر ثقافي متين من الكتابة والقراءة والفكر النقدي، وبينما يبدو الطريق طويلا وشاقا يبقى من الممكن أن نعيد الثقافة إلى يد من يستحقها حقا أولئك الذين يقرأون الذين يكتبون والذين يفكرون بعمق قبل أن يتحدثوا.




