في تطور مفاجئ أعاد أجواء الحرب إلى قطاع غزة، شن جيش الاحتلال الإسرائيلي مساء الثلاثاء سلسلة غارات مكثفة على مدينتي غزة ودير البلح، بعد ساعات فقط من أوامر مباشرة أصدرها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لقواته بتنفيذ “ضربات قوية وفورية” ضد القطاع، عقب اتهامه حركة حماس بتسليم رفات لا تخص أيًّا من الرهائن الإسرائيليين الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً، في ما بدا أنه الشرارة التي أنهت هدنة هشة لم تدم طويلاً.
الضربات الجوية الإسرائيلية جاءت بعد إعلان كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، تأجيل تسليم جثمان أحد الأسرى الإسرائيليين الذي كان مقرراً مساء اليوم نفسه، مشيرة إلى أن “الخروقات المتكررة من الجانب الإسرائيلي” حالت دون تنفيذ الاتفاق.
وقالت القسام إن العملية التي كانت مقررة عند الساعة الثامنة مساء بتوقيت غزة، تأجلت بعد أن تسبب القصف في تعطيل عمليات البحث والحفر داخل الأنفاق، مؤكدة أن أي تصعيد جديد “سيعقد بشكل خطير جهود استعادة الجثامين وتسليمها وفق الاتفاق”.
وفي حين استهدفت الغارات الإسرائيلية مواقع في رفح جنوب القطاع، أكد الجيش أن قواته تعرضت لإطلاق نار، وهو ما اعتبره “خرقاً للتهدئة” التي كانت قد بدأت في 10 أكتوبر الجاري بوساطة دولية.
إلا أن محللين في تل أبيب وصفوا الرواية الرسمية بأنها “غطاء سياسي” لتبرير العودة إلى العمليات العسكرية، خاصة بعد الضغوط التي يتعرض لها نتنياهو من داخل حكومته اليمينية.
فقد تسارعت دعوات وزراء متشددين مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير لإنهاء الهدنة واستئناف الحرب، معتبرين أن حماس “تستهزئ” بالحكومة الإسرائيلية عبر تسليم رفات لا تخص أي رهينة جديد.
ورد نتنياهو باتهام الحركة بتضليل الرأي العام وتسليم بقايا بشرية تعود لأوفير تسرفاتي، أحد قتلى عملية السابع من أكتوبر 2023 التي أشعلت الحرب، مؤكداً أن الجيش كان قد استعاد جثته منذ الأسابيع الأولى للصراع.
ورغم ذلك، أكدت حماس تمسكها بالاتفاق وحرصها على استكمال تسليم الجثامين، موضحة أن عمليات البحث معقدة للغاية بسبب حجم الدمار الهائل في القطاع ونقص المعدات التقنية اللازمة للتعرف على هوية الرفات.
وقال المتحدث باسم الحركة حازم قاسم إن “العمل جارٍ بأقصى طاقة ممكنة لإغلاق ملف التبادل بالكامل، لكن العدوان المستمر يعرقل كل شيء”.
وبموجب اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته قوى دولية في أكتوبر، كانت حماس قد أفرجت عن جميع الرهائن الأحياء مقابل إطلاق سراح نحو ألفي أسير فلسطيني، بينما التزمت بتسليم رفات المفقودين الإسرائيليين لاحقاً.
غير أن تصاعد التوتر بعد “حادثة الرفات” دفع إسرائيل إلى إعادة تموضع قواتها وشن ضربات جديدة، ما يُنذر بعودة العمليات العسكرية الواسعة.
وفي خلفية المشهد، يبرز البعد السياسي لهذا التصعيد، إذ يواجه نتنياهو ضغوطاً متزايدة من اليمين المتطرف في حكومته، في وقت يحاول فيه الحفاظ على دعم الولايات المتحدة التي قادت جهود الوساطة في التهدئة الأخيرة.
مصادر سياسية في تل أبيب ذكرت أن أي تحرك عسكري واسع “لن يتم دون تنسيق مسبق مع واشنطن”، التي ما تزال تراقب الموقف بحذر، فيما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه “يتابع عن كثب” كيفية تعامل حماس مع ملف الرفات.
على الأرض، تواصل فرق الإنقاذ الفلسطينية عمليات البحث بين الأنقاض في أنحاء القطاع، بدعم من آليات ثقيلة أُدخلت من مصر للمساعدة في رفع الركام، في وقت تتحدث فيه وزارة الصحة في غزة عن أكثر من 68 ألف شهيد خلال عامين من الحرب، إضافة إلى آلاف المفقودين الذين ما زالوا تحت الأنقاض. وتشير التقديرات إلى أن جزءاً من رفات الرهائن الإسرائيليين قد يكون داخل شبكة الأنفاق التي دمرتها الغارات الإسرائيلية.
تبدو “قضية الرفات” مجرد شرارة في سياق أزمة أعمق، فالأزمة بين تل أبيب وحماس لم تكن يوماً محصورة في التفاصيل الإنسانية، بل تعكس صراعاً على المعنى السياسي للحرب ذاتها. فنتنياهو، المحاصر داخلياً بتهم الفشل والفساد، يحاول استعادة زمام المبادرة عبر تصعيد جديد يلهب مشاعر الداخل الإسرائيلي.
في المقابل، تجد حماس نفسها في معركة مزدوجة.. بين التمسك باتفاق دولي يحافظ على ما تبقى من غطاء سياسي، وبين مواجهة ضغوط ميدانية متواصلة تهدد قدرتها على الصمود التنظيمي.
وهكذا، بين رفاتٍ بشرية غامضة، وغاراتٍ تعيد المشهد إلى نقطة الصفر، تبدو غزة مرة أخرى ساحة اختبار لحدود “العقل السياسي” في المنطقة، حيث يتحول الموت إلى أداة تفاوض، والهدنة إلى فاصل زمني مؤقت بين جولتين من الجنون المتبادل.




